عندما يتخلى الكاتب عن أن يكون أحد المقاييس الأساسية لضمير وكرامة المجتمع وأفراده تصبح الثقافة على شفير الانزلاق نحو العفن والفساد. فالمجتمعات والشعوب تحتاج الى تذكير دائم بأنها هي أصل ومنبع ومصدر إشعاع كل قوة وهيبة تتواجد في حياتها.
لكن من يتابع الكثير مما يكتب ويقال في وسائل الإعلام العربية يلاحظ بأن الكثيرين من كتاب ومتحدثي العرب ينسون هذه البديهيات وينغمسون في لعبة التحقير إن لم يكن بالغمز واللمز فبالإيحاءات الرمزية. وهذه الإيحاءات تفعل فعلها التراكمي الخفي في إشعار الإنسان العربي بالدونية والضعف الأبدي.
لتوضيح ذلك دعنا نذكر بعضاً من الأمثلة:
أولا: عندما يكتب البعض من الكتاب عن مطالب الشعوب أو مطالب مجموعات مظلومة منها فإنهم لايبدون شامخين يلوٍّحون بالحقوق الطبيعية والأخلاقية للإنسان، وإنما يرفعون تلك المطالب كتظلمات الضعيف المغلوب على أمره للقوي المهيمن صاحب القرار الأول والأخير. ومن هنا يقرأ الإنسان جملاً من مثل "إن الشعب الفلاني هو شعب طيب ولاينشد الكثير، وكل ما يطالب به هو الحدود الدنيا التي تستره وتخفٍّف من وطأة مصاعب الحياة التي يعيشها". وبمعنى آخر فإن على صاحب السلطة والثروة والامتيازات والوجاهات أن لايقلق وأن لايخاف من أية مواجهة مع المطالبين بحقوقهم، ذلك أن هؤلاء لن يتخطُّوا عتبة رفع المظالم والانتقال الى الفعل وإثبات الوجود إن لم تُلبًّ تلك المطالب. وهم في جميع الأحوال سيقبلون بالفتات وبما يُتصدُّق عليهم. وهكذا يزرع هؤلاء الكتاب الاستكانة في نفوس شعوبهم ويحيلوهم الى شحًّاذين واقفين على أبواب الاستجداء بدلاً من مساعدة هذه الشعوب على الشعور بقدرتها على انتزاع حقوقها دون منًّة من أحد، وعلى الإيمان الراسخ بأن الآخرين هم الذين يجب أن يقفوا على باب الشعوب يستجدون رضاها.
ثانيا: هناك ارتباط وثيق بين كبرياء الشعوب واعتزازها بنفسها وإصرارها على خوض معارك الحياة وبين لغة الخطاب الذي تقرأه أو تسمعه يومياً. إن كل كتاب ومعلقي " إسرائيل " لايصفون المقاومة الفلسطينية إلاً مقرونة بالإرهاب ولايتكلمون عن العرب إلاً كمتوحشين متخلفين وذلك من أجل تجييش المشاعر ورصٍّ الصفوف. أما في بلاد العرب فإن الاحتلال العسكري الاستعماري في العراق يطلق عليه اسم القوات المتحالفة، والمقاومة الفلسطينية توصف بأحداث العنف في الضفة الغربية (وليس فلسطين)، وثورة يوليو تنقلب إلى العهد الناصري، والتدخل الاستعماري الأميركي السافر في الشؤون الداخلية لكل بلاد العرب يصبح المشروع الأميركي لدمقرطة الشرق الأوسط. إن هذا الأخذ الأعمى للتعابير التي يطلقها الإعلام الغربي ودوائر النفوذ في بعض عواصمه والذي يؤدٍّي الى إضعاف الذاكرة أو طمس الحقائق لايمكن ألاًّ أن يؤدي الى تربية الشعوب لتصبح فاقدة الوعي والإرادة مستكينة لكل مايفعله الغير بها.
ثالثا: فاذا أضيف ذلك إلى الصور التلفزيونية وهي تركٍّّّّّّّّّّّّز على انحناءة الظهر وخفض العيون ووضع اليد على الركبة وتقبيل الأكتاف والأيادي والجبهات والركب، وإلى الاهتمام المبتذل بكل ما يتلفظ به هذا المسؤول أو ذاك حتى ولوكان لغواً معاداً ألف مرة، فإننا نستطيع تصور الآثار المترتبة عن تلك الثقافة الرمزية التي تكرس الخضوع وتزوٍّر الحقيقة.
إن الحرب النفسية والرمزية الخفية من أجل الإخضاع والسيطرة قـد مورست عبر القرون. لكنها لم تبلغ هذا المستوى من الانتشار والتنوع الذي تعيشه كل شعوب العالم وفي مقدمتها الشعوب العربية. وفي هذه اللحظة التي تحاول فيها قوى كثيرة الهيمنة على ثروات ومستقبل هذه الأمة يصبح تواجد لغة خطاب باعثة للحياة والتمرد والكرامة في الإنسان العربي ومجتمعاته أمراً مصيرياً لا يجوز الاستهانة به.