متابعة أحداث العراق والكتابة عنها كدخول "جحيم" الشاعر الإيطالي دانتي، "مكتوب على البوابة: هنا ينبغي أن تكون الروح قوية، هنا لا ينبغي الانصياع لهواجس الخوف". أيّ هدية في العيد تليق بفتاة في العشرينيات من عمرها تتابع أحداث العراق من مدينتها بغداد، وتنشر منذ نحو سنة ونصف السنة يومياتها بالإنجليزية للقراء حول العالم؟
"هذه هي البداية إذن"؟ بهذه الكلمات استهلت في الساعة السابعة والدقيقة 36 من مساء يوم الأحد 17 أغسطس 2003 أول نشرة لها في موقعها على الإنترنت. "أنا فتاة عراقية عمري 24 سنة، بقيت على قيد الحياة بعد الحرب. وهذا كل ما تحتاجون لمعرفته، كل ما هو مهم هذه الأيام على أية حال". وتعترف الفتاة البغدادية بأنها لم تفكر يوماً أن يكون لها موقع إنترنت، أو تتوقع أن يهتم أحد بقراءته، وتحذر مسبقاً من كثرة ما ستشكو، وتستصرخ. أول شكوى كانت "محنة" الاستيقاظ من النوم في بغداد: "إمّا أن تستيقظ مُتثاقلاً، أو مُرتجاً". الاستيقاظ البطيىء "على حافة الوعي، فيما الذهن يتشبث ببقايا حلم... شيء يزحف حواليك، ويُغطيك تماماً كضباب ثقيل حار...درجة الحرارة 50 مئوية، وعيناك تطرفان بفزع محدقتين في الظلام. الكهرباء مقطوعة، والمروحة السقفية توقفت، وأنت مستيقظ الآن كليّاً. "محاولة استئناف النوم في الحرارة الخانقة غير مجدية، كمحاولة تحريك المروحة السقفية بدماغك: كلاهما مستحيل". الطريقة الأخرى هي الاستيقاظ مصعوقاً بأصوات طلقات بندقية، أو انفجار، أو صراخ. "تجلس، فزعاً ومرعوباً، كما في حلم، أو كابوس ضاعت معالمه... ماذا يمكن أن يكون ذاك؟ لصا؟ أو عصابة؟ هجوما؟ أو انفجار قنبلة؟ أم مجرد غارة تفتيش أميركية في منتصف الليل"؟.
لغتها الإنجليزية الطلقة، وتعليقاتها التهكمية الّلماحة يعبران عن ثقافة جيل الإنترنت متعددة الوسائط، والقدرة العالية على التركيز، التي تميز العاملين في مهنتها، برمجة الكومبيوتر. استعاراتها وصورها الفنية قوس قُزح يتسع لجميع الألوان، بما في ذلك الهجاء البغدادي المتهكم، والنكات الإنجليزية "السوداء". جرأتها في التعبير الفوري عن رأيها بكل شيء وكل شخص تكشف عن معنى تعليق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على شعوره خلال الاحتلال الألماني لبلاده "لقد كنا أكثر حرية آنذاك". إنها في حبسها المضاعف، كشابة عراقية في عراق محتل أكثر حرية من مستعبديها في واشنطن ولندن وعبيدهم في بغداد. وهي على خلاف الكتاب المحترفين والسياسييين غير مقيدة بأجوبة مسبقة، أو قناعات جاهزة، بل تفكر بحرية طوال الوقت وبصوت عالٍ. تتساءل مثلاُ، فيما إذا كانت لا تستطيع في هذه اللحظة أن ترى المستقبل، أم لا تريد أن تراه؟ "لعلنا نحجب المستقبل كذكرى سيئة، أو كهاجس قِبلي". وتستدرك: "المستقبل مع ذلك يزحف عليك في آخر الأمر. فنحن نعيش في هذه اللحظة المستقبل، الذي كنا نخاف تصوره قبل ستة شهور. إنه كما لو تحاول البحث عن مخرج من كابوس. كل ما أتمناه لو يأخذوا النفط ويوّلوا عنا".
تعدد مصادر معلوماتها يثير الدهشة، وأحدثها مواهبها الرصدية، التي أولدتها معاناة العيش في العراق المحتل. في حوار مع شقيقها الصغير، الذي تطلق عليه اسم "E" تستعرض مهارتها في التمييز بين الإطلاقات المختلفة، ومعرفة، ما إذا كانت هذه "منهم"، أو "منّا"، وهل هي منطلقة من مسدس، أو بندقية رشاشة، أو دبابة أو عربة مسلحة، "أباتشي"، أو "تشينوك". "يمكنني تحديد المسافة وحتى الهدف". وتفزعها هذه الموهبة، التي يشارك فيها حالياً جميع العراقيين تقريباً صغاراً وكباراً. "هذه مهارات قد لا يُنصح بذكرها في سيرة الحياة للبحث عن وظيفة"!
يومياتها سجل الحياة اليومية للبغداديين تحت الاحتلال: تدبير قناني الغاز للطبخ، تشغيل المولدات الكهربائية، تأمين المواد الغذائية، اللقاءات مع الأقرباء والجيران، الاعتناء بأشجار النخيل والحيوانات المنزلية... وأخبار حوادث الخطف والاغتيال، وفضائح مقاولات "هاليبرتون"، وجرائم تعذيب الأسرى في معتقل أبو غريب، وقتل السكان المدنيين في الأعظمية ومدينة الصدر والنجف والفلوجة والرمادي والموصل. وليس المهم فيما تكتبه معلوماتها الدقيقة فقط، بل طريقتها في الحديث بغريزة وطنية وحس إنساني "فطري". تذكر في ردّها على اتهام بعض قرائها لها بكراهية الأميركيين، "أنا لا أكره الأميركيين... هذا لا يعني أنني أحبهم، بل أنا كملايين العراقيين ترعرعت على احترام ثقافات الشعوب الأخرى". اعتزازها بعراقيتها ومعلوماتها الشخصية عن منجزات مهندسي ومثقفي بلادها ومؤسساته الوطنية شهادة مؤثرة عن وطنية الجيل الجديد من العراقيين، الذين لا يشوشهم الغباء الطائفي والتعصب القومي أو الديني.
ولا يساورها القلق من التعليق على مسائل بالغة الحساسية، كاغتيال الزعيم الشيعي محمد باقر الحكيم، أو السخرية من محاصصة الحكم الطائفية، من دون أن يهتز حسّها الوطني الغريزي. يحميها في ذلك التنوع المذهبي والأثني للأسرة والأصدقاء والجيران، وغنى العلاقات الثقافية والمراسلات اليومية عبر الإنترنت