تشهد بكين في هذه الأيام زخماً ونمواً اقتصادياً متسارعاً في جميع الاتجاهات، حيث بات العالم يعتبر الصين قوة عظمى ناشئة ولاشيء على السطح فيما يبدو يتناقض مع هذه الفكرة. لقد تمدد الاقتصاد الصيني من البرازيل إلى بنجلاديش وصولاً إلى بتسوانا في القارة الأفريقية. وفي عام 2003 بلغ إجمالي الدخل المحلي للصين مستوى 401 تريليون دولار وأصبح من المتوقع أن يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بحلول العام 2005. وهذا البلد الذي كان بمثابة لاعب خجول ومتردد في الشؤون الدولية أصبح الآن يستضيف محادثات الدول الست المعنية بمناقشة المشكلة النووية في كوريا الشمالية، ويرسل قواته لحفظ السلام إلى هاييتي ويخوض بشكل مباشر في مواضيع ساخنة مثل إيران وإقليم دارفور في السودان. ولقد برهن القادة الصينيون على أنهم يتمتعون بالمهارة والحنكة الدبلوماسية وهم يتقدمون بالاقتراحات الخاصة في شتى مجالات التعاون الدولي التجاري والأمني والسياسي.
على أن الصين لربما اقتربت من التوقف في مضمار هذا السباق. فقصة النجاح الصيني التي مازالت تستحوذ على إعجاب العالم بدأت تتلقى استجابة سلبية من الدول المجاورة لها. ومن المفهوم أن الولايات المتحدة الأميركية أخذت تعيد تركيزها على المنطقة عبر التقدم بمقترحات تتعلق بإبرام اتفاقيات للتجارة الحرة الخاصة بها في آسيا. ولكن اليابان أصبحت طرفاً أصيلاً في الجدل المحلي الدائر بشأن السياسات الصينية. وقد كشفت العديد من الدراسات التي أجريت مؤخراً عن أن غالبية اليابانيين يرغبون في خفض مساعدات التنمية المقدمة إلى بكين. ومراجعة التقارير الدفاعية التي صدرت في طوكيو في ديسمبر المنصرم التي حددت دولتي كوريا الشمالية والصين كدول تمثل تهديدا للأمن القومي الياباني، بل وحتى الدول الأصغر حجما في منطقة جنوب شرق آسيا بدأت في تغيير حساباتها واندفعت في تحسين علاقاتها مع القوى الأخرى مثل الهند، ومع بعضها البعض. وفي خطابه الذي ألقاه أمام منظمة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) طالب الرئيس الإندونيسي الجديد سوسيلو بامبانج هذه المنظمة الإقليمية بضرورة العمل على تكامل أعضائها في سوق موحدة كرد فعل على بروز الصين والهند كقوى اقتصادية سريعة النمو.
ولكن العائق الحقيقي الذي يقف أمام بروز الصين المستمر كزعيمة إقليمية وعالمية مازال يتعلق بالدولة نفسها. ففي ظل غياب المؤسسات السياسية التي تتمتع بالشفافية ومبدأ المحاسبة بحيث تصبح قادرة على تطبيق القوانين بصورة منظمة، فإن المبادرات والمقترحات الصينية بشأن التعاون الدولي في مجالات تطوير الطاقة وحقوق الملكية الفكرية والرعاية الصحية والتجارة قد أصبحت مجرد علاقات عامة لا طائل منها. وأصدق مثال على ذلك اتفاقية التجارة الحرة لدول جنوب شرق آسيا (الآسيان) التي طالما روجت لها الصين. ولكن المراقبين لاحظوا وجود أكثر من 100 استثناء وإعفاء في الاتفاقية في الرسوم الجمركية بين الصين والدول الأعضاء الأخرى في منظمة دول جنوب شرق آسيا بحلول العام 2015، ما جعلهم يعتبرون هذه الاتفاقية أقل أهمية بكثير عما تم الإعلان عنه. كذلك فإن أكثر ما تحتاجه الصين الآن إصلاح سياسي حقيقي يقنع شركاءها بأن بإمكانها المضي قدماً في اتخاذ القرارات الصعبة وتنفيذ المعايير والمتطلبات المحلية التي يحتاجها التعاون الإقليمي.
وعلى سبيل المثال فإن معالجة الصين للأزمة الصحية التي نجمت عن انتشار مرض "السارس" في عام 2003 إنما يسلط الضوء على العلاقة بين مشكلة الإدارة الحكومية وحاجة المجتمع الدولي للقبول بدعاوى الصين في القيادة والزعامة، وبلاشك فإن غياب الانفتاح والشفافية بشأن المدى الذي انتشر فيه المرض داخل الأراضي الصينية، بالإضافة إلى ممارسة عمليات التغطية والخداع قد ألحقت أضرارا جسيمة بكامل المنطقة، وبعد انتهاء أزمة مرض السارس وعد رئيس الوزراء وين جياباو بأن تؤدي الدولة بشكل أفضل في المستقبل إلا أن التقدم نحو المزيد من الانفتاح في النظام السياسي ظل هامشيا في أفضل حالاته.
ولكن وزارة الإعلام (التي كانت تعرف سابقا بمكتب الدعاية) الصينية عمدت مؤخرا إلى حظر نشر أي تقارير غير مصرح بها فيما يتعلق بالتظاهرات والإضرابات وأعمال الفوضى والشغب كما منعت إجراء أية مناقشات لما أسماها الحزب الشيوعي الصيني "المسائل التي تتعلق بالنخبة". وفي شهر ديسمبر المنصرم وبعد أن أعلنت عن موافقتها على استضافة الحدث سارعت بكين إلى تعليق المؤتمر الدولي لقادة النقابات والأعمال التجارية الذي كان من المفترض أن يناقش سلسلة من المواضيع بما فيها حقوق العمالة وسوء استغلال الأطفال كعمال.
ويبدو أن العالم محق في تشجيع الصين على تعميق إحساسها بمزيد من الالتزام والمسؤولية في سلوكها الدولي. وبات من الواضح أن القيادة الصينية تحتاج إلى أكثر من الاقتصاد المتنامي ومجرد الرغبة في الزعامة. فهي تحتاج أيضاً إلى المقدرة على تطوير سياسات مناسبة يسهل تنفيذها بكفاءة وفعالية داخليا وخارجيا على حد سواء. وفي النهاية فإن