التراث ماضٍ، والماضي لا يفيد إلا للاعتبار، لكنه يستحيل أن يقيم حاضراً أو أن يبني مستقبلاً. ولهذا فإن من يستخدم التراث اليوم ويعتقد واهماً إمكانية العودة إلى الماضي الجميل، سيكون كمن يبني قصراً في الرمال سرعان ما سيجرفه موج الحداثة. التراث كالمتاحف التي نزورها ونرى فيها عظمة الماضي، ثم نخرج منها ربما مبهورين بعظمة الغابرين، لكن سرعان ما ننساها ولا نتعايش معها. فالتراث لا يشكل جزءاً من شخصيتنا إلا بمقدار ما نفكر فيه مثل التراث الديني الذي يأتينا جاهزاً من خلال رجل الدين فقط، بدليل أن "فكرنا" الديني لا يتجاوز الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز وفق ما نسمعه من سيل الفتاوى التي يطلبها معظم المسلمين. أما ما تبقى من تراث حضاري في بقية العلوم سواء الفكرية (المعتزلة، إخوان الصفا، الفلسفة، الآداب) أو العلمية كالكيمياء والرياضيات، فلا محل لها لدى عموم المسلمين، الأمر الذي يدل على أن التراث ليس موجوداً على مستوى الوعي.
حتى التاريخ الإسلامي يمثل منطقة مجهولة إذا تركنا جانباً المعلومات التي يتم تلقينها للمسلم في المرحلة الدراسية، والتي بدورها لا تسلم من النسيان بسبب عدم علاقتها بالحلال والحرام.
ومن الممكن أن يكون هذا مقبولاً لو أن هذا التراث المجهول لدى عموم المسلمين ظل في الذاكرة، لكن المشكلة تكمن في عدم التخلي عنه لصالح الحاضر والمستقبل. فالدراسات النقدية في المجال الديني منعدمة، حيث يصعب على أي باحث نقد التاريخ الإسلامي، وهو تاريخ غير موثق مادياً سواء بالوثائق المكتوبة أو الآثار (الأركيولوجية) المادية. ومن المعروف أن تاريخنا الإسلامي يعتمد على نقل شفاهي لا يمكن التأكد منه حدوثاً ولا مصداقية، ومن المكابرة تجاهل هذه الحقيقة. وبسبب ارتباط الحدث التاريخي بالحدث الديني تزداد صعوبة البحث الجاد الحر النزيه. ولهذا السبب تأتي معظم -إن لم يكن كل- الأبحاث في عالمنا العربي ذات طابع تبجيلي تفاخري بما حققه الأولون، حتى ولو حفل المجال التاريخي والديني بالتناقضات النصية والعقلانية. ويكفي سوءاً انعدام محاضرات الأديان المقارنة في جامعاتنا، وتخلف مناهج البحث العلمي، وتردي التعليم خاصة الجامعي.
لقد وصل بالمسلمين الحال إلى "تقديس" التراث، برفض إخضاعه لمناهج البحث العلمي، والحقيقة أنه لا توجد دراسات علمية جادة في هذا المجال في جامعاتنا العربية. أما الجامعات الدينية فهي متاحف متحركة لا تفيد المسلمين بشيء. ومما يؤلم حقاً أن الباحثين المسلمين لا يملكون جرأة التحدي، خاصة حين يرون ما حل بالمفكر د. نصر حامد أبوزيد من نفي وتشريد، والتهديد الدائم بالردة لكل من يجرؤ على البحث في المجال الديني بشكل نقدي.
من الأخطاء التي تمتلئ بها حياتنا، الاعتقاد الزائف أن جميع مراحل تاريخنا حضارة، في حين أن التقدم الحضاري لم يحدث سوى في القرن الرابع الهجري فقط، أما بقية القرون فلم تكن حضارة حقيقية، فضلاً عن أن "حضارتنا" لم تخرج من العدم، بل استفادت من علوم الآخرين، خاصة اليونان. مع ملاحظة أن المجال الديني في هذا القرن الحضاري كان محدوداً، بل إن المجال الديني هو المجال الوحيد الذي لم يستفد منه العالم حضارياً. فالفلسفة والعلوم التطبيقية من طب ورياضيات وغيرهما من العلوم هي التي استفاد منها العالم، ولكن جميعها اليوم حالها حال المتحف الذي يضم الماضي، لكن لا يبني حاضراً ولا يصنع مستقبلاً.