ما مدى الحرية التي تتمتع بها الصحافة الأميركية "الحرة"؟ وهل إن غياب الرقابة الحكومية المباشرة يؤدي إلى خلق صحافة حرة؟ ففي ورقة تقدمت بها مؤخرا إلى مؤتمر نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية كنت أسعى للمساهمة في ذلك النقاش بدراسة التأثيرات والنفوذ الذي يمارس على عاتق أجهزة الإعلام الأميركية، وبينما لا توجد سيطرة أو رقابة سياسية على الإعلام الأميركي كما يحدث أحيانا في المجتمعات التي تدير فيها الحكومة أجهزة الاعلام نجد أن النفوذ الذي "يراقب" التغطية الإعلامية على الرغم من أنه يتسم بالرقة وعدم المباشرة إلا أنه في جميع الأحوال قد برهن على حضوره وفاعليته، وإلى ذلك فإن معظم المؤسسات الأميركية الاخبارية تدعى المصداقية كعلامة تجارية. وفي الوقت الذي يزعم فيه المنتقدون من اليسار ومن اليمين أن هذه الشبكات والصحف اليومية تبث وتنشر هذه الأخبار تميل نحو الليبراليين تارة وأخرى نحو المحافظين ففي الحقيقة إن القوى التي تشكل درجة المحاباة إلى جهة أو أخرى في التغطية الإعلامية متجذرة وتتسم بالكثير من التعقيدات. فالنفوذ الثقافي والتجاري والسياسي لديه تأثير كبير على القرارات الخاصة بالمنافذ الإعلامية والتي تتعلق بكتابة وصياغة إعادة الصحيفة وكذلك بمحتوى المعلومات التي تنشرها أو توزعها، أما كبار المراسلين والمحررين والمعلقين ومقدمي برامج الأخبار التلفزيونية والمسؤولين الحكوميين ومصادر الأنباء الأخرى جميعها درجت على التغطية من دائرة صغيرة في مدينتي واشنطن العاصمة ونيويورك.
وبالإضافة إلى أن جميع الأميركيين ظلوا يساهمون في هذا المفهوم والقيم الثقافية فقد استمر أعضاء هذه الجماعات النخبوية الصغيرة يتواجدون في نفس الطبقة الاجتماعية ويتواصلون مع بعضهم بعضا ويعيشون في عوالم مفتوحة على بعضها بأبواب دوارة، وبينما تم تحقيق الكثير عبر الباب الدوار الذي يصل بين الحكومة والشركات التجارية فإن الباب الذي يربط أجهزة الإعلام مع الحكومة لا يجب إغفاله أو تجاوزه، وهو أمر ينطبق أيضا على المعلقين والمحللين الذين تستأجرهم هذه الشبكات من أجل تفسير والقاء الضوء على هذه الأنباء، إذن فإن هذه المجموعة في مجملها تشترك في نفس الآراء تجاه العالم ونفس الإحساس بالتاريخ أو عدمه ونفس التفسير السياسي وحدود الخيارات السياسية المتاحة لأولئك المسؤولين الحكوميين الذين درجوا على تغطية أفعالهم وردود أفعالهم، وهو أمر ينطبق أيضا على الضيوف المدعوين من قبل أجهزة الإعلام لإجراء لقاءات معهم وأولئك الذين تعتمد عليهم هذه الأجهزة "كمصادر"، بل إن غالبية هؤلاء الضيوف والمعلقين والمحللين عادة ما يكونون من المسؤولين الحكوميين أو المسؤولين الحكوميين السابقين أو ضباط الجيش السابقين.
وفي مثل هذا المناخ السائد فإن "التفكير المعتدل" يُشكل مشكلة حقيقية، وفي هذه الثقافة الأشبه بالارتباط "القبلي" قد يصل الأمر في هذه المهنة على وجه الخصوص إلى فقدان "إمكانية الدخول والمشاركة"، واذا كانت التأثيرات الثقافية مهمة فإن الاعتبارات التجارية تتمتع بنفس القدر من الأهمية بحيث أصبحت تمثل ضلعا مركزيا في عملية اتخاذ القرار، وهناك فكرة سائدة في أوساط الصحفيين الأميركيين تتحدث عن "الأيام الجميلة الماضية" عندما كانت عائلات صغيرة تمتلك الصحف اليومية وتشتبك بشجاعة في معارك مع الحكومة والمؤسسات التجارية بشأن الحقيقة وكانت المدن الأميركية الكبرى وحتى الصغيرة تصدر ثلاث أو أربع صحف معظمها لديه منافذ توزيع مستقلة وتتمتع بالتنافسية والحكايات عن تلك الفترة تعتمد أحيانا على الخيال أكثر من الواقع ولكن على أية حال فإن هذه "الأيام الجميلة الماضية" قد ولت الى غير عودة، واليوم فإن ملكية أجهزة الإعلام أصبحت في أيدي القليل من المؤسسات الكبرى المندمجة ونتيجة لهذا الاندماج أصبحت مصادر المعلومات قليلة وأقل تنوعا.