احتشدت أخبار وعناوين الصحافة العالمية بالتوقعات والتكهنات القائلة باقتراب الفرصة السانحة لاستئناف مفاوضات السلام الفلسطيني - الإسرائيلي. ولكنني عدت للتو من رحلة أسبوع إلى منطقة النزاع، قضيت معظمها في القدس والضفة الغربية. خلال هذه الرحلة لم أجد سوى قلة من السكان، تتفق وهذه التكهنات المتفائلة بدنو السلام. على نقيض ذلك تماما، هناك فيما يبدو قناعة واضحة لا تخطئها العين، بأنه لا سبيل إلى تحقيق هذا الأمل قريبا، وإن الأقرب هو أن يحدث تحسن تدريجي في مستوى الحياة اليومية للمواطنين.
هذا في الجانب الفلسطيني. أما في الجانب الإسرائيلي، فقد التقيت بين الكثيرين، ممن هم على قناعة بأن رئيس الوزراء إرييل شارون، ليس في عجلة من أمره إلى الدخول في مفاوضات سلام مع الطرف الفلسطيني. والأرجح أن بيده كامل السلطة والصلاحية لأن يشكل حكومة، بوسعها تأييد خطته الخاصة بالانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة.
وقبل أن أتحدث إلى زملائي الإسرائيليين، كنت أحسب أن الانسحاب من القطاع، أمر في غاية السهولة، وأن شارون لم يكن إلا يتلكأ، في محاولة منه لكسب بعض الوقت. وعلى أية حال فإن معظم الإسرائيليين لا يفضلون الاستمرار في التمسك بمستوطنات القطاع، في حين لا يبدي حماسا كهذا، سوى قلة من اليهود القاطنين في تلك المستوطنات. كان ذلك مجرد اعتقاد مني، ولكنني سرعان ما أدركت أن تنفيذ هذا الانسحاب في الواقع، لن يكون أمرا سهلا، بالنظر إلى شراسة المقاومة التي يواجهها شارون لخطته من قبل سكان المستوطنات أنفسهم. يلاحظ أن هذه المقاومة لا تقتصر على يهود القطاع وحدهم، بل تشمل كذلك سكان المستوطنات الموجودة في الضفة الغربية أيضا. كما اتضح أن هناك بعض الضباط في الجيش الإسرائيلي، ينوون عدم الإذعان للأوامر العليا، القاضية باستخدام القوة ضد المستوطنين، في حال عدم إخلائهم بيوتهم طواعية في المناطق المقرر الانسحاب منها. واستشهد بعضهم بحديث سابق لشارون نفسه في عام 1994، حين قال إنه يجب عدم إطاعة الأوامر العليا، إن كانت تشكل تهديدا للأمن الإسرائيلي.
أما في جانب اليسار الإسرائيلي، الذي يعد في أضعف حالاته الآن، فهناك من أضحى على قناعة، بأن خطة الانسحاب لن تجد طريقها سهلا وممهدا للتطبيق. ومع ذلك وعلى رغمه، أجد نفسي ميالا للقول إن هذه الخطة ستتحقق، غير أنها ربما تستغرق الجزء الأعظم من العام الحالي. بعدها سيحتاج شارون لبرهة من الوقت، يلتقط فيها قواه وأنفاسه، قبل أن يواصل الانسحاب من جزء من مستوطنات الضفة الغربية. وعلى الأرجح أن الرئيس بوش، سيدعم هذه الاستراتيجية التدريجية. وهناك من الإسرائيليين من بات على قناعة بأنها مسألة وقت لا أكثر، قبل أن يضطر شارون لإجراء انتخابات جديدة. وما أن يحدث ذلك، حتى ينشأ فراغ سياسي لبضعة أشهر على الأقل. أما أكثر ما نستطيع أن نتوقعه خلال العام الجاري، من تنفيذ خطة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحددة، هو الانسحاب من قطاع غزة. ولكن علينا ألا ننسى أن غزة ستظل مطوقة بالقوات الإسرائيلية من جميع الاتجاهات، حتى بعد اكتمال عملية الانسحاب. هذا ولم يتضح بعد، ما إذا كانت إسرائيل ستسمح بإعادة فتح كل من ميناء ومطار غزة أم لا؟. بعبارة أخرى، فمن الممكن –استنادا الى كل هذه المعطيات- أن يكون القطاع، سجنا كبيرا، يكاد يخلو من أي حيوية أو نشاط سياسي، بينما تسوده ظروف اجتماعية-اقتصادية في غاية الصعوبة والتعقيد.
وليس من عجب أن يكون معظم الفلسطينيين الذين التقيتهم وتحدثت إليهم، على وعي بهذه الصورة القاتمة عن واقع واحتمالات السياسات الإسرائيلية المتبعة. وهؤلاء على قناعة راسخة بأن شارون ليس هو الرجل الذي يجري التفاوض معه جديا حول تحقيق السلام. كيف لا وقد تضافرت عدة عوامل في الحياة اليومية، أدت لخلق هذا المزاج السوداوي السيئ بين أوساط الفلسطينيين؟. من هذه العوامل انتشار محطات ونقاط التفتيش والمراقبة التي تقيد حركتهم، الانتشار والتوسع المستمرين في بناء المستوطنات، إلى جانب التدهور الاقتصادي، وتدني المستوى المعيشي لغالبية الفلسطينيين، والحملات العسكرية الإسرائيلية التي تستهدف وتحصد أرواحهم يوميا. نتيجة لهذا الواقع المأساوي، فقد كان رأي اثنين من الفلسطينيين الذين رافقوني في السيارة التي كانت تقلني، أنهما لن يدليا بأصواتهما في الحملة الانتخابية الخاصة باختيار رئيس السلطة الفلسطينية. والسبب أن الانتخابات لن تغير واقع حياتهم في شيء. أما الاثنان الآخران، فقالا إنهما سيفكران في الإدلاء بأصواتهما كمجرد إجراء، دون أدنى حماس داخلي حقيقي، يدفعهما إلى ذلك. يجدر بالذكر أن مثل هذه الروح، كانت قد سبقت الانتخابات الرئاسية التي جرى خلالها اختيار أبومازن، بيومين فحسب!
غير أنني التقيت عناصر فلسطينية أخرى –سيما من عناصر منظمة فتح أو مؤيديها- ممن يؤمنون بأن في وسع الانتخابات، أن تكون نقطة البداية في طريق الإصلاح الحقيقي. وما أن استمعت إليهم، حتى ذهلت لطموح التوقعات والأفكار التي تدور بخاط