يعتبر سرطان عنق الرحم من أكثر الأمراض السرطانية انتشارا على الإطلاق بين النساء الغربيات. ففي بريطانيا مثلا، يحتل سرطان عنق الرحم المرتبة الثانية، على قائمة الأمراض السرطانية الأكثر انتشارا بين البريطانيات، الأقل عمرا من خمسة وثلاثين عاما. حيث يتعدى عدد الإصابات بينهن حاجز الثلاثة آلاف حالة سنويا. بينما تقدر الجمعية الأميركية للسرطان، إصابة أكثر من عشرة آلاف امرأة سنويا في الولايات المتحدة بسرطان عنق الرحم، يلقى قرابة الأربعة آلاف منهن حتفهن بسبب المرض. وكما يدل اسمه، يصيب هذا النوع من السرطان الخلايا المبطنة للجزء السفلي من الرحم (العنق). حيث تشهد تلك الخلايا تغيرات مجهرية غير طبيعية، تسبق تحولها إلى خلايا سرطانية. وفي بداية القرن العشرين دون علماء الإحصاء الطبي أربع ملاحظات غريبة، تتعلق بصفات انتشار سرطان عنق الرحم بين النساء. أولها، انتشاره بين بنات الهوى بنسبة أكبر من انتشاره بين بقية النساء. ثانيها، ندرته بين الراهبات، وخصوصا العذارى منهن. وثالثها، ارتفاع نسبته بين الزوجة الثانية، لرجال توفيت زوجاتهم الأولى بسبب المرض. ورابعا، ندرته بين زوجات الرجال الذين خضعوا لطهارة عضو الذكر بعد الولادة، ( الختان ) كما هو الحال بين رجال المسلمين واليهود. هذه الملاحظات أدت بالعلماء إلى استنتاج وجود نوع من العدوى بمرض جنسي، يقف خلف الإصابة بسرطان عنق الرحم، كنتيجة حتمية للإباحية الجنسية وتعدد الشركاء. واستنتج العلماء أيضا أن انتشار هذه العدوى، مرتبط إلى حد ما بعدم طهارة الرجل. وبحلول عقد السبعينيات تمكن العلماء من التعرف على الفيروس المتسبب في هذا المرض الجنسي، وهو "فيروس الثآليل البشرية" (human papillomavirus) والمعروف اختصار بـ (HPV)، والذي أصبح المتهم الرئيسي في 90% من حالات الإصابة بسرطان عنق الرحم.
ويظهر المرض الجنسي الناتج عن هذا الفيروس، أو مرض الثآليل الجنسية (venerals warts)، على شكل زوائد لحمية صغيرة الحجم على الأعضاء الجنسية وما حولها. ولم يكن الأطباء يدركون قبل اكتشافهم وعزلهم للفيروس، مدى الانتشار الواسع له وللأمراض الناتجة عنه. فعلى سبيل المثال، يقدر الخبراء أن عدد حالات العدوى بهذا الفيروس، تفوق عدد حالات الإصابة بأي نوع آخر من أنواع الأمراض الجنسية. وهو ما يجعل مرض الثآليل الجنسية أكثر الأمراض الجنسية انتشارا على الإطلاق. فحسب تقدير اتحاد الصحة الاجتماعية الأميركي، يصاب كل عام خمسة ملايين ونصف المليون أميركي بفيروس الثآليل الجنسية. وعلى حسب تقديرات أخرى، يوجد حاليا حوالي 20 مليون أميركي مصابين بهذا الفيروس. ومثله مثل العديد من الأمراض الجنسية الأخرى، لا يتسبب فيروس الثآليل الجنسية في الكثير من الأعراض والعلامات الظاهرة. لدرجة أن المعهد القومي الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، يقدر بأن نصف النساء المصابات بالفيروس لا تظهر عليهن أية أعراض للمرض. وهو ما يجعل الكثيرين من المصابين بالفيروس وبالمرض الناتج عنه، غير مدركين لمرضهم، ولا بإمكانية نقله لشخص آخر أو باحتمالات التعرض للمضاعفات الناتجة عنه، مثل الإصابة بسرطان عنق الرحم.
وبرغم أن فيروس الثآليل البشرية يعتبر المتهم الأول والرئيسي خلف الإصابة بسرطان عنق الرحم، إلا أن الجمعية الأميركية للسرطان تلقي باللوم أحيانا على قائمة أخرى من عوامل الخطر، تلعب جميعها دورا في زيادة احتمالات الإصابة بالمرض. مثل التدخين، والعدوى بمرض الكلاميديا الجنسي أو فيروس الإيدز، والعوامل الغذائية، وحبوب منع الحمل، وتعدد الحمل والولادة، وانخفاض المستوى الاقتصادي والاجتماعي، واستخدام بعض العقاقير، ووجود تاريخ عائلي للإصابة بالمرض. وفي رأيي الشخصي أن الكثير من العوامل السابقة مثل الإصابة بفيروس الإيدز ومرض الكلاميديا واستخدام حبوب منع الحمل وانخفاض المستوى الاقتصادي، هي عوامل تترافق غالبا مع نظام حياة جنسية ماجن تغلب عليه الإباحية، وهو ما يترافق كما ذكرنا مع الإصابة بفيروس الثآليل. بل يذهب بعض العلماء (Walboomers et al. 1999)، إلى درجة التأكيد على ضرورة الإصابة بفيروس الثآليل، كشرط أساسي للإصابة بسرطان عنق الرحم. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن الإصابة بالأمراض السابقة، أو استخدام حبوب منع الحمل، أو انخفاض المستوى الاجتماعي الاقتصادي، هي أمراض وصفات مقصورة فقط على الماجنين الإباحيين.
ومثله مثل مرض الثآليل، لا تظهر الكثير من الأعراض في المراحل المبكرة من سرطان عنق الرحم. وحين تظهر هذه الأعراض، فغالبا ما تكون في شكل نزيف بعد المعاشرة الجنسية، أو نزيف بين فترات الطمث الطبيعية، أو على شكل إفرازات مهبلية غير طبيعية. هذه الطبيعة الخفية إلى حد ما للمرض، وخصوصا في مراحله الأولى، تجعل من الكشف الطبي الروتيني إجراء بالغا لأهمية للكشف عنه في مراحله المبكرة. ويتم الكشف الطبي الروتيني في هذه الحالة، من خلال ما يعرف بمسحة عنق الرحم. ويتم في هذا الإجراء الحصول على بعض الخلايا من عنق الرحم من خلال فرشاة خا