تشرفت بزيارة إسرائيل في الشهر الماضي وتجولت في العديد من المطاعم والمحال التجارية الكبرى التي احتشدت بالمتسوقين. ويبدو أن الرسالة لم تصل بعد إلى معظم السياح إذ أن المدينة القديمة في القدس كانت خالية منهم حتى قبل أسبوع فقط من أعياد الميلاد. أما الآن فقد بات من الواضح أن الانتفاضة بعد 4 سنوات قد توارت تماماً بعد أن عادت الحياة إلى طبيعتها في إسرائيل أو إلى سيرتها الأولى على الأقل في الدولة التي ظلت تواجه المخاطر التي تهدد وجودها منذ يومها الأول.
ولما كانت الحكمة التقليدية تؤكد أن من المستحيل تقريباً على الديمقراطية أن تلحق الهزيمة بأعمال العنف والاضطرابات المنظمة -وهو الشعور الذي تعززه الأحداث الأخيرة التي تجري في العراق- إلا أن إسرائيل استطاعت تقديم نموذج مختلف. فالهجمات الإرهابية في عام 2004 قد شهدت تراجعاً بنسبة تزيد على 40 في المئة مقارنة بالعام السابق ليس بسبب قلة المحاولات من جانب الفلسطينيين وإنما ببساطة لأن العمليات "الاستشهادية" قد جرى تقليصها عبر مجموعة من التدابير والإجراءات الدفاعية والهجومية. وهي إجراءات في معظمها حميدة وضرورية مثل نشر حراس الأمن أمام جميع مداخل المطاعم ومراكز التسوق وهم يفتشون الحقائب بواسطة أجهزة كشف المعادن. ولكن أكثرها إثارة للجدل هو ذلك الحاجز الأمني الذي أطلق عليه أعداء إسرائيل اسم "الجدار" والذي يجري العمل على إكتماله بين إسرائيل والضفة الغربية.
لقد قدت سيارتي لمسافة تبلغ حوالى 10 أميال خارج مدينة تل أبيب لكي أشاهد الحاجز الذي يفصل ما بين مدينة كفر سابا الإسرائيلية ومدينة قلقيلية الفلسطينية. ووجدت امتداداً صغيراً لجدار خرساني يهدف إلى حماية الطريق العام من القناصة. ولكن الحاجز الذي شاهدته عبارة عن سياج من السلاسل المتصلة في معظمه. وهناك نظام متطور من أجهزة الاستشعار الإلكترونية والكاميرات التي توفر تغطية مستمرة. وبالقرب من إحدى القواعد الخاصة بالجيش الإسرائيلي توجد غرفة تؤمها مجموعة من الفتيات المتخصصات في مجال الاستخبارات يجلسن أمام شاشات الفيديو والكمبيوتر لمراقبة السياج. وفي حال ورود إنذار سرعان ما يتم إرسال دورية لتقصي الأمر.
لقد بات من الواضح أن إنشاء هذا الحاجز قد أدى إلى تقليل حالة الإرباك التي كان يعاني منها سكان مدينة قلقيلية الذين لم يعد يتوجب عليهم المرور عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية عندما يسافرون ويرتحلون إلى مناطق أخرى من الضفة الغربية. وما زالت هناك نقطة تفتيش للدخول إلى إسرائيل ولكن حركة العبور كانت تمضي في خفة وانسيابية. والآن فإن الإسرائيليين أصبحوا يعزون التراجع الكبير في مستوى الهجمات الانتحارية إلى مقدرة الحاجز على إجبار الإرهابيين على الخروج من أراضي الضفة الغربية. ولكن القوات الإسرائيلية ظلت تشن غارات ليلية أيضاً على الضفة الغربية بهدف تجميع المعلومات الاستخباراتية وإلقاء القبض على المشتبه بهم. أما في قطاع غزة حيث يقل وجود قوات الدفاع الإسرائيلية فقد بات من الصعوبة بمكان إلقاء القبض على مجموعات كبيرة من الإرهابيين لذا فإن قوات الدفاع الإسرائيلي درجت على اغتيالهم بالقنابل والصواريخ، في خطوة برغم التنديد بها في جميع أنحاء العالم إلا أنها أدت إلى تصفية مجموعة كبيرة من قيادات حماس.
إن النجاح الكبير الذي حققته هذه المبادرات المضادة للإرهاب بالإضافة إلى رحيل ياسر عرفات قد أفضت إلى آمال تبشر بالسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وأصبح معظم الإسرائيليين راغبين في تقديم تنازلات مهمة مثل الانسحاب من قطاع غزة، بينما بات معظم الفلسطينيين أكثر رغبة في التخلي عن العنف، لذلك اقتنع المتفائلون بأن انتخاب محمود عباس كرئيس للسلطة سيعزز هذا الاتجاه ويؤدي في النهاية إلى إبرام الصفقة التي طال انتظارها.
لربما كانوا على حق، ولكنني أعتقد أن أكثر ما يثير الإحباط هو أن ترى محمود عباس يعانق كبار الإرهابيين ويذهب إلى حد وصف إسرائيل بـ"العدو الصهيوني". وكذلك فإن عباس لم يعلن عن تخليه عن "حق العودة" للفلسطينيين وهو أمر يعادل عدم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية. وحتى إذا كان عباس يؤمن في حقيقة الأمر بمبدأ التعايش السلمي فما زال من غير الواضح أن لديه العزيمة أو القوة الكافية لضرب الميليشيات التي ترغب في التخلص من اليهود وإلقائهم في البحر. كل ذلك يؤكد أن من الخطأ على الغرب أن يحتضن عباس ويكرر نفس الخطأ الذي ارتكبه مع عرفات في حقبة التسعينيات. إن أكثر ما نحتاجه الآن ليس رجلاً قوياً فلسطينياً آخر يحتفي به الغرب بل إلى ديمقراطية فعالة في فلسطين تقودها زعامات متعددة وليس كما شهدنا مؤخراً في الانتخابات التي افتقدت إلى المنافسة الحقيقية وفاز فيها محمود عباس بنسبة كبيرة. وقد يعترض بعض "الواقعيين" زاعمين أن السلام لا يحققه إلا شخصيات قوية مثل الرئيس المصري أنور السادات· ولكنني أعتقد أن هذه العقلية هي ذاتها التي أدت إلى فشل استراتيجية العقد الماضي والتي أفضت إلى مزيد من العنف.