يبدو أن الاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب قد أنهى المناوشات الأولى التي تصاحب عقد كل القمم العربية منذ نشأة هذه المؤسسة، وكان من المتوقع أن تمهد لمؤتمر قمة الجزائر. فالدولة المضيفة سحبت دعوتها للتناوب على منصب الأمين العام للجامعة العربية. وتشير التقديرات الى أن هذه القضية العجيبة ستستمر كإحدى مناطق الاحتكاك بين الحكومات العربية. ولذلك فإن طرح وسحب الفكرة الجزائرية لم ينته الى نتيجة ايجابية من حيث حق الشعوب العربية في التعلم وحق النخب السياسية والثقافية العربية في مناقشة القضية على مستوى أعلى مما حدث في أروقة الجامعة ومداولات المؤتمر الوزاري الاستثنائي. لقد طرحت الفكرة وسحبت دون أن تناقش شعبيا أو من جانب المثقفين. ولذلك قد تترك مرارات وتهدر فرصة التقدم في فهم القضية المطروحة، ولذلك أعتقد أن من الضروري مواصلة مناقشتها.
والواقع أن الفكرة ليست بذاتها مصطنعة ولا هي بالفكرة السيئة. فالتناوب على المناصب الكبرى في أي تنظيم إقليمي يقوي حس الانتماء بين الدول الأعضاء ويشعر الجميع بالمشاركة في صنع القرارات والسياسات. وفي السياق العربي تحدث فكرة التناوب قطيعة مع إحدى النظريات السيئة في السياسات العربية وهي التمييز بين دول القلب ودول الهامش. والواقع أن الدول العربية الصغيرة تلعب أدوارا جوهرية على المستوى الاقليمي يتجاوز بكثير حجمها السكاني. وقد شهدنا نموذجا فذا لهذا الدور في الاتحاد الأوروبي. فالدول الصغيرة عادة ما تنجح في تهدئة المنافسات بين الدول الكبيرة، وتقلل كثيرا- سواء بالتصويت أو من خلال نصيبها من المناصب الكبرى – في منع الاستقطاب بين محاور يدور كل منها حول دولة كبيرة بعينها. وغالبا ما تكون الدول التي اصطلح على إدراجها تحت المصطلح القبيح "دول الهامش" أكثر ولاءً للتنظيمات الاقليمية الكبيرة لأنها أكثر حاجة لها من الدول الكبيرة للتعبير عن هويتها ومصالحها في أقاليم درجت الدول الكبيرة على احتكار القوة فيها. وفي السياق العربي بالذات لم يعد من الممكن القبول بهذه المصطلحات لأن بعض الدول الصغيرة تملك وتقوم بأدوار مهمة سواء من منظور السياسات الواقعية أو من منظور الحياة والآمال القومية. واذا كنا نقول ذلك فيما يتعلق بالدول الصغيرة فما بالنا بالدول العربية الكبيرة الأخرى الى جانب مصر. ولذلك لا أظن أن المصريين يمانعون من حيث المبدأ في مناقشة تلك القضية وإن في سياق نهوضي شامل. وقد يكون الرفض المصري الرسمي للفكرة نابعا من أنها بدت معزولة عن الأفكار الأخرى للنهوض بالجامعة. وهي التي تحتاج الى ثورة حقيقية حتى تستعيد مصداقيتها. بل وبدت الفكرة من الناحية الشكلية عجيبة حقا.
بدت الفكرة عجيبة لأنها فرعية وتابعة للقضايا الكبرى التي تحدد مصير العرب من الداخل والخارج. ولأنها كرست الشعور بوجود منافسة حول مناصب مؤسسة تقع على الحدود بين الموت والحياة. وهي تتلامس بدون شك مع الصراعات الفكرية والسياسية التي تدور على امتداد رقعة الفكر العربي، ولكنها في السياق الذي طرحت فيه بدت ملامسة ضعيفة للغاية. ذلك لأننا لا يمكن أن نفسر الخلاف حول قضية تناوب منصب الأمين العام باعتباره تعبيرا عن صراع فكري. فالمضمون الفكري للسياسات الجزائرية يختلف اختلافا بينا عنه في السياسات الكويتية، ويختلف الاثنان عن السياسات اليمنية وهي الدول التي تنادي بتناوب منصب الأمين العام. كما أن الخلافات البسيطة التي ثارت بين عدد من الحكومات العربية والأمين العام الحالي السيد عمرو موسى لا تدفع للاعتقاد بأن القضية المثارة حقا فكرية وسياسية في السياق العربي تحديدا. فالسيد عمرو موسى هو واحد من فئة صغيرة للغاية من الساسة العرب الذين يقفون في منتصف المسافة بين الليبرالية والايديولوجيا القومية وبين المدرسة القومية القديمة وتلك التي ترفع لواء التحديث، وهي الفئة التي تستطيع مباشرة حوار حقيقي وواقعي بين مختلف تيارات الفكر العربي في المرحلة الراهنة. وليس من الممكن أو المستحب أن يعبر الأمين العام عن تيار واحد من تيارات السياسة في العالم العربي، وإلا كان فشله مؤكدا.
الخلاف حول قضية التناوب على المنصب ليس إذن خلاف بين تيارات الفكر والسياسة، وإنما هو منازعة حول الأنصبة والأدوار في النظام العربي. ولا شك أن هذه المنازعة مشروعة وأحيانا ضرورية. ولكنها تكون مفيدة فقط عندما تتمتع الدول الأعضاء بقدرة ومهارة تفاوضية عالية، وعندما تقع المنازعة حول قيم حقيقية، وليس على أدوار ومناصب في مؤسسة تشرف على الموت.
ولهذا السبب تعد المناوشات الأولى حول هذه القضية صدمة حقيقية تضاعف الشعور العام باليأس من السياسات العربية. فهي أثيرت على خلفية من الأداء البائس للنظام العربي على كل الأصعدة. بل وتثار بعدما وقع في قمة تونس من مشاهد مخيبة للآمال التي عقدت لنرى مشهدا أقرب الى مسرح العبث منه الى لقاء رصين بين زعماء يشعرون بمسؤوليتهم فى انقاذ أمة تتعرض للعدوان من الخارج والتحلل والتراجع الحضاري من الداخل. وعندما يبدأ ال