الانتخابات في العالم العربي أصبحت عنواناً لشرعية مفقودة تحاول الأطراف المختلفة خلقها وإيجادها في بلدين عانا الأمرّين جراء احتلال عسكري ومواجهات مع قوى عارضت ذلك الاحتلال. في المثال الفلسطيني هناك إجماع كامل بأن الانتخابات ستؤدي على الأغلب إلى حكومة شفافة وبيروقراطية أكثر كفاءة عن البيروقراطية السابقة، وقد تؤدي إلى انسحاب جزئي من غزة ومن بضع مدن في الضفة الغربية. والغريب أن عدداً كبيراً من القادة السابقين مثل (جيمي كارتر وغيره) آثروا أن يصبحوا مراقبين فعالين في الانتخابات الفلسطينية، بينما تجاهل معظم المراقبين الدوليين الانتخابات العراقية، ربما لأسباب أمنية، ولكن كذلك لأسباب أخرى تتعلق بإصرار الولايات المتحدة على عقد هذه الانتخابات في هذا الوقت بالذات، حتى لو عنى ذلك هلاك المرشحين والناخبين.
والعجيب أن هذا التمسك الأميركي بموعد عقد الانتخابات العراقية له جانبان، أحدهما أيديولوجي بحت وهو إصرار الإدارة الأميركية، ومن خلفها المحافظون الجدد على جعل العراق المجروح والمأزوم، ولكن الديموقراطي، مثالاً لنموذج جديد تحاول الولايات المتحدة جعله شبيهاً بالمثال النابوليوني الذي صُدّر إلى أرجاء القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر، حيث تعطي الديمقراطية الجديدة في العراق الإدارة الأميركية شرعية مفقودة أمام شعبها وأمام العالم لتغيير النظام الصدامي السابق. وتعطي كذلك مثالاً لدولة فيدرالية جديدة تابعة للتاج، وكأنما هي جوهرة مخضبة ببعض الدماء في درع الإمبراطورية المتجدد.
من ناحية عملية فإن الانتخابات العراقية تجعل من أي نظام سياسي يظهر بعد الحادي والثلاثين من يناير الحالي كمؤسس لدولة ذات طابع شرعي، مما يسمح لمثل هذه الدولة بأن توقع معاهدات دولية مع حلفاء رئيسيين يسمح لهم بتواجد قواتهم في قواعد عراقية لمدد طويلة قادمة. كما أن إنشاء مثل هذه الدولة سيعطيها شرعية تسمح لها بتوقيع اتفاقيات وامتيازات التنقيب عن النفط والغاز في أراضي العراق، بما يحقق الأهداف الاقتصادية والإستراتيجية للحرب التي خاضتها الولايات المتحدة في ذلك البلد، وتكون بهذا قد أوصلت هذه الحملة إلى تحقيق أهدافها وترسيخ أقدامها على أرض الرافدين، وصبغ تلك الأراضي بلون أزرق لعقود طويلة قادمة.
وبالنسبة للنخبة الحاكمة في العراق، فيبدو أنها ستكون نخبة طويلة العمر بالفعل، فهي قد شاركت بشكل كبير في حملة أبريل عام 2003، وهي قد شاركت في مجلس الحكم المؤقت، وهي قد شاركت بشكل كبير، إما بشكل مباشر أو عبر سلسلة من الأقارب وأبناء العمومة في الحكومة المؤقتة، وهي حتماً ستكون على هرم السلطة بعد الحادي والثلاثين من يناير. أما بالنسبة للقوى الداخلية العراقية، فإن جماعات الشيعة في العراق في أغلبهم يرون أن هذه الانتخابات ستعطيهم حقهم المهدور طوال سنوات طويلة من الحكم العسكري وشبه العسكري لبلادهم. أما الأكراد فهم يرون أنه يحق لهم البقاء في هذا النظام الفيدرالي أو الانسحاب منه متى ما شاءوا، حيث تضمن الضمانات (وحق الفيتو) الذي حصلوا عليه في الدستور المؤقت رغباتهم في أن يكونوا جزءاً من عراق موحد، أو أن ينفصلوا عنه متى ما رأوا أن مصالحهم تتعارض مع البقاء داخل حدود تلك الدولة.
ومثل هذا الفيتو الذي سمح به المندوب السامي الأميركي (بريمر) في بغداد في يناير الماضي، ووافق عليه مجلس الحكم يومها في الدستور المؤقت يجعل مسألة بقاء العراق موحداً في المستقبل أمرا يحتاج إلى إعادة نظر. حيث تجعل هذه المادة من الدستور النظام العراقي أقرب إلى النظام الكونفدرالي الذي يسمح للأعضاء بالانفصال، منه إلى النظام الفيدرالي الذي يجبر الأقاليم على البقاء حتى وإن أدى ذلك إلى صراع مسلح لإبقائهم في أطر الدولة الفيدرالية.
أما بالنسبة للسنّة فهم قد قاطعوا هذه الانتخابات، أو أن معظم أحزابهم ستقاطع هذه الانتخابات. وهذا يعني أنه ولأول مرة في تاريخ العراق الحديث يبقى السنّة خارج الإطار الرسمي للدولة العراقية الحديثة. ولا شك أن الطوائف السنّية هي أكثر الطوائف العراقية تضرراً من الاحتلال. بعض المحللين يرون بأن ما يفعله السنة في العراق اليوم من مقاطعة الانتخابات هو أمر غير محمود العواقب. وأن مقاطعة السنّة اليوم للانتخابات سيعني كذلك أن يبقى السنّة مهمشين في أي نظام سياسي جديد في ذلك البلد. وهناك بعض القادة العراقيين الحاليين ممن يرون في نموذج الفلّوجة نموذجاً يجب تطبيقه على سائر المدن السنية المقاومة. وهم في ذلك يقترفون إثماً سياسياً بحق الشعب العراقي كله الذي يريد أن يبقي على اللحمة والوحدة الوطنية، ويريد أن يبقي على الوجه العربي للعراق، وليس الوجه الشرق الأوسطي الجديد الذي يريد العديد من القادة الجدد القادمين إلى بغداد رسمه لوجه العراق ومستقبله.
والانتخابات العراقية لن تقود إلى استقرار سياسي لأنها ستخلق نظاماً سياسياً غير مستقر، أقرب ما يكون للنظام الكونفدرالي منه للنظام السياسي. كما أن مثل هذه الكونفدرالية ستكون متأثرة بقر