أثناء حملته الانتخابية أكد محمود عباس مجدداً على أنه يسير في طريق سلفه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. وقد تركزت أحاديثه على سبيل المثال حول عزمه على بسط سيادة حكم القانون وإنهاء حالة الفوضى والاضطرابات التي ظلت تسيطر على حياة الفلسطينيين، والعمل على اجتثاث الفساد. وتعهد أيضاً بتعزيز دور المرأة وتحسين مستوى الحياة المعيشية للمواطنين بالإضافة إلى مصادرة جميع الأسلحة غير المشروعة. وهي جميع المسائل التي كان عرفات يرفض مناقشتها أو التطرق إليها، هذا وقد أكد عباس على وجهة نظره ومفادها أن العنف قد ألحق أضراراً جسيمة بطموحات الفلسطينيين في قيام دولتهم الوطنية. ولكن وحتى يوم الانتخابات الأحد الماضي عندما فاز عباس بأغلبية ساحقة وأصبح رئيساً للسلطة الفلسطينية. لم يكن واضحا ما إذا كان المواطنون في الشارع الفلسطيني قد استجابوا لهذه الرسائل التي بعث بها إليهم أم أنهم ما زالوا مأسورين في مرحلة الانتفاضة والصراع السياسي التي هيمنت على الحياة السياسية الفلسطينية طوال أيام عرفات؟.
والآن فقد أفرجت جامعة بيرزيت بالقرب من رام الله عن استطلاع للرأي شمل 900 ناخب فلسطيني من الضفة الغربية وقطاع غزة كشف عن أن غالبية الفلسطينيين لم يعودوا يركزون اهتمامهم على العمليات الانتقامية أو الاستمرار في التفجيرات الانتحارية، وإنما على المضي قدماً في تنفيذ الأجندة الخاصة ببناء الدولة وعودة الحياة إلى طبيعتها. وبات من المفهوم أن العودة إلى طاولة مفاوضات السلام أخذت تكتسب الأولوية في هذه الأجندة. ووفقاً لهذه الاستطلاعات وفي إجابة على سؤال يتعلق بمدى التأثير الذي ستخلفه العملية الانتخابية، تمحورت أكبر ثلاثة ردود من الناخبين الفلسطينيين في أنها سوف تعمل على تحسين وترقية أداء السلطة الفلسطينية وتحسين الحالة الاقتصادية بالإضافة إلى تحسين وتعزيز الأمن الداخلي.
وقد أشار العديد من الفلسطينيين أيضاً إلى أن الانتخابات ستفضي إلى تقليل آثار الحواجز وإغلاق الطرق من قبل الإسرائيليين كما ستؤدي إلى إعادة استئناف العلاقات والروابط مع إسرائيل. وعندما طلب من هؤلاء الناخبين تحديد أولوياتهم تركزت معظم الإجابات على ضرورة انسحاب الإسرائيليين من المدن الفلسطينية وتحسين الحالة الاقتصادية، تلتها في المرتبة الثانية ضرورة إعادة استئناف المفاوضات السلمية مع إسرائيل. ومن اللافت أيضاً أن مسألة تحسن الحالة الاقتصادية قد احتلت الصدارة عند الناخبين في قطاع غزة وتفوقت على مسألة الانسحاب الإسرائيلي. وهذا الأمر ربما يعكس حقيقة أن المواطنين في قطاع غزة أصبحوا يعانون من وطأة الفقر بشكل أكبر مما هو عليه الحال في الضفة الغربية، علماً بأن إسرائيل قد تعهدت أصلاً بالانسحاب من هذه المنطقة. وأخيراً عندما تم توجيه سؤال لهم يتعلق بالخصائص والمميزات المطلوبة في المرشح الذي يدعمونه تركزت إجاباتهم في أن يتحلى بالصدق وحسن النوايا ثم مقدرة المرشح على تحسين الظروف الاقتصادية وتلتها مقدرة المرشح على تحقيق برنامجه والعمل على تعزيز الديمقراطية.
وبالطبع فإن الحديث عن المؤسسات الديمقراطية أسهل بكثير من الخوض في بناء وإنشاء هذه المؤسسات. وبرغم ذلك فإن قيام الانتخابات يوم الأحد الماضي يعتبر علامة مهمة على هذا الطريق. وكان حسن البطل المحرر في صحيفة "الأيام" اليومية الفلسطينية كتب يقول: إن الشعوب العربية بأكملها أصبحت اليوم تشعر بالغيرة من الفلسطينيين.
وبشكل عام أيضاً وكما جاء في الاستبيان الذي أجراه مركز القدس للاتصالات الإعلامية بعيد وفاة عرفات فإن المزيد من الفلسطينيين أصبحوا أكثر تفاؤلاً بشأن المستقبل مما كان عليه الحال منذ بداية الانتفاضة في عام 2000 تماماً كما أن أعداد الفلسطينيين الذين يعارضون شن الهجمات في إسرائيل قد قفز من مستوى 26 في المئة في يونيو عام 2004 إلى 51 في المئة في ديسمبر من نفس العام في أعلى مستوى له منذ بداية الانتفاضة.
إن الانتصار الساحق الذي حققه محمود عباس يحمل دلالتين. أولهما أنه يمنحه التفويض العريض لتحقيق أهدافه وبرامجه كما يعطيه الشرعية اللازمة للعمل على تحويل مسار الدولة بعيداً عن الاضطرابات وأعمال العنف. وفي نفس الوقت فإن هذا الانتصار سيمنح أيضاً مؤيديه ومعارضيه على حد سواء الأدوات اللازمة لاختبار أدائه بموجب المعايير التي حددها في برنامجه الانتخابي. ومن المعلوم أن مبدأ المحاسبة يعتبر جوهر الحكم الديمقراطي وقد تعهد محمود عباس بتطبيق هذا المبدأ. لذا فإن العديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة الأميركية بات يتعين عليها تقديم يد المساعدة لمحمود عباس حتى يتمكن من إظهار مقدرته على الإيفاء بتعهداته لتحسين الحياة اليومية للفلسطينيين. وهنالك العديد من السبل التي يمكن من خلالها تحقيق هذا الأمر بما في ذلك العمل على إعادة إنعاش التنسيق الأمني الإسرائيلي-الفلسطيني (الذي من شأنه أن يقلل من المخاطر الأمنية المترتبة على رفع الحواجز) والعمل على إعادة الهدوء وخلق مناخ يساعد على تعزيز التقدم