تمر مجتمعاتنا اليوم، مثلها مثل جميع المجتمعات المعاصرة الأخرى بمرحلة عاصفة من التحولات النابعة من مجموعة من المتغيرات التي لا يزال من الصعب التحكم بها أو السيطرة عليها بعد.
من هذه المتغيرات التي أود أن أشير إليها تلك المتعلقة بالبيئة الدولية. فمن الواضح أننا نعيش اليوم مرحلة الانتقال من نظام عالمي سيطرت عليه لفترة طويلة الدولة وقررت معالم تنظيمه وتطوره إلى نظام عولمي مفتوح عابر لحدود الدول والبلدان سواء جاء ذلك بصورة مختارة أم فرض علينا بالقوة. ويقود هذا الانتقال نحو بيئة دولية جديدة إلى تحول الدولة التي جسدت طوال حقبة كاملة مفهوم السيادة إلى أداة من أدوات الاستراتيجيات العالمية المتنافسة التي تبلورها وتطبقها القوى العظمى. وهكذا فقد مفهوم السيادة أو هو في طريقه إلى أن يفقد بريقه وسطوته في العلاقات الدولية لصالح ما أصبح يسمى في الأدبيات العالمية مفهوم الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية. فلم يعد الاستقلال والتمحور حول الذات اللذين يحفظان السوق الداخلية من المنافسة الخارجية هما العامل الرئيسي في خلق فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية كما كانت تنادي بذلك نظريات محاربة التبعية وإنما بالعكس من ذلك قدرة المجتمعات على التعامل مع المحيط الخارجي وتثمير عوامل التضامن واقتناص فرص التعاون والتبادل الدولية. وبقدر ما أصبحت تنمية أي قطر جزءاً لا يتجزأ من التنمية الإنسانية العامة، أصبحت المقدرة على التفاهم مع الآخر وبناء الشراكات الواسعة والحية هي شرط الانتقال نحو الاقتصاد الجديد والاندراج في عالم العصر. وتنطبق هذه القاعدة أيضاً على المسائل الأمنية والاستراتيجية. فكما أنه لم يعد في مقدرة أي قطر أن يضمن لوحده، مهما كان حجم ترسانته الحربية أمنه واستقلاله أصبحت التحالفات والاندراج الفاعل في شبكات المصالح الدولية المتزايدة قاعدة التأمين الرئيسية ضد التهديدات والاعتداءات والنزاعات الخارجية بل وربما الداخلية أيضاً في عالم مفتوح على جميع الأخطار. وهكذا يتوجب على العالم العربي الذي اعتاد في هذا المجال السباحة في المياه السطحية الراكدة والمستنقعات الضيقة المعزولة السباحة منذ الآن في مياه المحيطات العميقة وأن يواجه فيها أسماك القرش وظلمات القيعان المخيفة.
ومن هذه المتغيرات التي ينبغي الإشارة إليها تبدل النظم المجتمعية. فالمجتمعات التي بقيت تعيش خلال نصف القرن الماضي بحسب نماذج واضحة وتستند في تنظيم شؤونها إلى قواعد ثابتة ومقبولة وتحتكم إلى منظومات قيم يقينية بدأت في العقدين الماضيين، وبعضها منذ أقل من ذلك، رحلة الانخلاع عن نفسها والابتعاد عن اليقينية والشرعية معاً. أما بالنسبة للمجتمعات الفقيرة والضعيفة التي تضم معظم المجتمعات العربية فالمهمة مزدوجة. إن إعادة بناء المجتمعات على أسس شرعية ومقبولة تصطدم بشكل دائم بنقص النمو ونقص الوسائل وتضاؤل فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا يترافق التجديد المطلوب في الأسس المعنوية والرمزية التي لا تقوم من دونها حياة اجتماعية مع الانخراط في مسيرة التحول السريع والإنجاز المضاعف التي تفرض على هذه المجتمعات أن تحقق في سنوات قليلة ما أنجزته المجتمعات المتقدمة خلال عقود طويلة وأن تنجح أيضاً في تحقيق التواصل مع مجتمعات العلم والتقنية وما راكمته من معارف وتقنيات جديدة عبر القرون. وهذا يعني أن على هذه المجتمعات أن تخوض معركة اللحاق بالتحولات العالمية السريعة والانخراط فيها بما يتضمنه ذلك من تبديل نظم الإنتاج والمبادرة الاقتصادية وإعادة بناء النظم الإدارية وتغيير الطواقم البيروقراطية والتقنوقراطية وتجديد المؤسسات الصناعية والمالية وتهيئة المناخ القانوني الملائم لجذب الاستثمارات الخارجية وتوطين العلم والتقنية في التربة المحلية وفي الوقت نفسه معركة التجديد الروحي والثقافي، أي تجديد وعيها وهويتها ونمط تفكيرها وقيمها الأساسية.
ومن هذه المتغيرات الخطيرة أخيراً تعاظم دور العلم والمعرفة في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعية. ويكفي لإدراك هذا الدور الحاسم للعلم في هيكلة الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المعاصرة والمقبلة الإشارة إلى ما أصبح يطلق عليه الاقتصاديون اسم اقتصاد المعرفة حيث أصبحت المعارف هي العنصر الأهم في رأس مال البلدان ورصيدها والعامل الأول في تحقيق الفائض الاقتصادي. وأصبح تقدم المجتمعات يقاس بنصيب عنصر المعرفة والتقنية الكامن فيها حتى لم تعد للموارد الأولية ولا لقوة العمل اليدوية غير المؤهلة قيمة تذكر في مراكمة الثروات والفوائض الاقتصادية.
على هذا النوع من المتغيرات تجد المجتمعات العربية نفسها مدعوة للرد في السنوات القليلة القادمة. وعلى قدر نجاحها في تجديد أسس وجودها الروحية والفكرية والسياسية وتجاوز العقبات التي تحول بينها وبين تحقيق المشاركة العالمية وفي إعادة بناء ذاتها على أسس تتفق وحقائق العصر، من انفتاح وتكثيف الاستثمار في المعرفة واستدراك الهوة التقنية، تستطيع أن تحتفظ أو تأمل بأن تحتفظ