هدفت في مقالة الأسبوع الماضي إلى تقرير حقيقة تبدو لي واضحة، وهي أن الدولة السعودية تجد نفسها في مواجهة مع الخطاب الديني. ومع ذلك تحاول عدم مواجهة هذه الحقيقة على المستوى الفكري. المواجهة الميدانية بين الحكومة والجماعات المسلحة، والتي تتسلح بالدين، هي أمر يحدث على الأرض ولا يحتاج إلى إثبات. ومن ناحيتها، لا تتوانى هذه الجماعات المسلحة عن إعلان موقفها التكفيري للدولة بشكل واضح لا لبس فيه. وبالرغم من ذلك لا يمكن القول إن هناك حالة سجال فكري بين الطرفين.
إنه نوع من المفارقة أن تكون هناك مواجهة بين الدولة السعودية، وهي دولة يمثل الدين أحد أهم مرتكزاتها، وبين الخطاب الديني. ما الذي حصل للخطاب الديني حتى وجد نفسه في مواجهة الدولة ذاتها التي ارتبط بها وارتبطت به منذ البداية؟ لنستعد أحد ملامح مشهد هذه المواجهة، وهو المشهد الذي ألمحنا إليه في المقالة السابقة. في تلك المقالة ذكرنا استشهاداً مهماً من مقرر التوحيد للصف الثالث الثانوي. يقول الاستشهاد بأن: الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها من مذاهب الكفر ردة عن دين الإسلام، فإن كان المنتمي إلى تلك المذاهب يدعي الإسلام فهذا من النفاق الأكبر.... ونضيف هنا بعض تفاصيل هذه الرؤية التي لم نتمكن من إضافتها الأسبوع الماضي. يقول الكتاب: ... فالشيوعية تنكر وجود الخالق سبحانه وتعالى، وتحارب الأديان السماوية.... أما العلمانية فتنكر - حسب مؤلفي الكتاب: "الأديان وتفصل الدين عن الحياة، وتعتمد على المادية التي لا موجه لها ولا غاية لها في هذه الحياة إلا الحياة البهيمية". وعن الرأسمالية يقول الكتاب إن "همها جمع المال من أي وجه، ولا تتقيد بحلال ولا حرام، ولا عطف ولا شفقة على الفقراء والمساكين، وقوام اقتصادها على الربا الذي هو محاربة لله ورسوله...."، ويختم الكتاب هذه الفقرة بقوله "وأي عاقل، فضلا عمن فيه ذرة إيمان، يرضى أن يعيش على هذه المذاهب بلا عقل ولا دين ولا غاية صحيحة...". لندعْ الآن ما يتميز به هذا الاستشهاد من ركاكة فكرية، وتقريرية فجة، إلى جانب ما يعكسه من ضحالة معرفية بالأنظمة التي أعطى لنفسه حق تقرير الموقف الشرعي منها. فهذا قد نعود إليه لاحقا. ما يهمنا هنا هو الطبيعة الأيديولوجية للمضمون الذي ينم عنه، ودلالته السياسية بالنسبة للدولة التي في إطارها يمارس هذا الخطاب فعاليته. والأهم من ذلك أنه في مقابل هذا الموقف السياسي والأيديولوجي الواضح من قبل الخطاب الديني، والذي يصطدم مع سياسات الدولة، لا نجد لهذه الدولة موقفاً نظرياً واضحاً من مثل هذه المسائل التي يطرحها الخطاب. على الأرض، ومن الناحية العملية، تتناقض سياسات الدولة مع أطروحات الخطاب الديني هذه. لكن هذه السياسات العملية لا تجد من يعبر عنها نظرياً داخل الدولة وباسمها.
الاستشهاد السابق، وكما ذكرنا، مجرد مثال واحد، لكن أهميته ودلالته تتأتى من طبيعة الموضوع الذي يتحدث عنه، وعلاقته المباشرة بالدولة السعودية، وسياساتها الداخلية والخارجية، ثم موقف الكتاب من هذا الموضوع. هذا رغم أن الكتاب لا يذكر اسم دولة بعينها لا من بعيد ولا من قريب. هدف الكتاب، كما يبدو، هو تقرير الموقف الشرعي من "الأنظمة" التي ذكرها لا غير. لكن المعنى هنا واضح، وهو أن الفرد، أو المؤسسة، أو الدولة التي ترتبط بهذه الأنظمة هي إما تمارس النفاق، وإما أنها كافرة.
والغريب أن يأتي هذا الموقف من داخل أهم مؤسسات الدولة الثقافية والتربوية، وهي وزارة التربية والتعليم. ومن هنا تبدو الدولة في حالة ارتباك واضح، بل وتناقض مع نفسها. كيف؟ طبعاً لعله من الواضح أن هناك اتفاقاً كاملاً بين الخطاب الديني وبين الدولة السعودية تجاه الشيوعية. لكن هذه حركة تصدعت، ولم تعد لها أهمية تذكر لا على المستوى الفكري ولا المستوى السياسي. كذلك يمكن أن نقول الشيء نفسه بالنسبة للعلمانية. وبالتالي لا تمثل الشيوعية أو العلمانية مناطاً للمواجهة أو الصدام بين الدولة والخطاب الديني. أما بالنسبة للرأسمالية فالأمر مختلف، لأن الدولة السعودية تسير في هذا الموضوع في اتجاه معاكس ومتناقض مع ما يرتئيه الخطاب الديني.
السعودية هي الآن جزء من النظام الرأسمالي العالمي ترتبط مع دوله ومؤسساته باتفاقيات، وقوانين ملزمة لكل طرف فيها. فهي عضو مؤسس وفاعل في الأمم المتحدة، وبالتالي ملتزمة بمقتضيات القانون الدولي. كذلك ترتبط السعودية بشبكة واسعة من العلاقات والاتفاقيات، سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية، وأمنية، مع مختلف دول العالم الرأسمالي. وضمن هذه الشبكة تنتج السعودية البترول، سلعتها الاستراتيجية، وتبيعه لمختلف دول العالم ضمن آليات السوق الرأسمالية. ولا ننسى المفاوضات التي تجريها السعودية حاليا للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وما يتطلبه هذا الانضمام من تعديلات تشريعية ومؤسسية تتوافق مع الطبيعة الرأسمالية لهذه المنظمة التي تمثل المرجعية القانونية للتجارة الدولية.
هناك العلاقات التي يق