يقول ديكارت صاحب فكرة الشك المنهجي ما نصه: "لكي يتوصل المرء إلى الحقيقة ينبغي عليه مرة واحدة في حياته أن يتخلص نهائياً من كل الآراء الشائعة التي تربى عليها، وتلقاها من محيطه، ويعيد بناء أفكاره بشكل جذري من الأساس".
هذا القول النيّر يقدم لنا الحل المنشود لحالة التخلف الفكري التي تضرب أطنابها في حياتنا العربية المعاصرة. وبعيداً عن المكابرة، لابد من الاعتراف بأن تراثنا العربي، خاصة الديني معيق أساسي لتقدمنا الحضاري، وذلك لما يشكله التراث الديني من رسوخ وجداني لا عقلاني في العقلية العربية، ولكي تكون المفاهيم واضحة جداً لا لبس فيها لأي عاقل يجب التفرقة بين الدين كرسالة سماوية والتراث الديني. وإذا كانت الرسالة وحي في كليّاتها، فالتراث الديني من فقه وتفسير وتاريخ ليس سوى نتاج العقل البشري الذي يصيب ويخطئ، والذي هو نتاج البيئة الاجتماعية والفكرية والسياسية التي عاشها الفقيه وتفاعل معها، ومن ثم يجب التأكيد على عدم سرمدية هذا التراث وعدم قداسته أيضاً. وقد يقول قائل إن العرب والمسلمين لا يقدسون تراثهم، وهذا قول باطل لأن الحقيقة هي أن المسلمين والعرب اليوم قد أضفوا على آراء الأقدمين قداسة بسبب عجزهم الفكري عن مواكبة الحاضر. وبسبب هذا العجز وانعدام المقدرة على المشاركة الحضارية المعاصرة أخذ العرب يلوذون بالتراث الديني بحثاً عن حماية للهوية الضائعة حضارياً، دون تجاهل لدور التراث الأدبي في تضخيم الذات.
في عصر العولمة ما عاد مهماً أن ينتمي الإنسان قومياً، لأن الإنسان خاصة في مجال حقوق الإنسان قد أصبح كونياً، وهذه "الكونية" هي السبيل الوحيد اليوم ليضمن نصرة العالم له إذا ما انتهكت الدولة القومية حقوقه باسم السيادة الوطنية. لكن العرب للأسف الشديد لا يزالون "يقدسون" القومية، بل إن كثيراً من الدول ارتدت عن القومية إلى القبلية والطائفية بسبب ضعف قدرة النظام السياسي على القيام بمهام الدولة القومية. وبسبب تجذر و"تقديس" المفاهيم القبلية والطائفية والقومية، ضعفت قدرة الإنسان العربي على تبني مفاهيم العولمة، بل إنه لا يستطيع تقبلها نفسياً، ومن ثم أخذ ينسج خيوط الوهم عن الغزو الثقافي والاستلاب الفكري، وأن أميركا ومن ورائها الغرب تريد القضاء على هويته القومية وتراثه العربي، وتوهم أنه بالتقوقع وراء هذا التراث العربي سوف يتمكن من مواجهة هذا الغزو الثقافي، علماً بأن هذا التراث لدى الغرب، ليس سوى تاريخ لا قيمة له إلا في المجال الأكاديمي، بل إنه حتى علم الاستشراق الأوروبي قد اندثر بسبب استنفاد حاجاته، وأن ما لدى الغرب اليوم في مكتباته الضخمة من هذا التراث يفوق أضعافاً مضاعفة ما لدى العرب والمسلمين معاً.
التراث يحتوي على كثير من مكونات الضعف البنيوي والهشاشة الفكرية، بدليل انتشار الشعوذة ومفسري الأحلام وهيمنة الخطاب الديني إلى درجة عطلت العقل العربي المسلم عن التفكير السوي لكيفية الاندماج في عصر العولمة. لقد أصبحت كتب التراث أكثر مبيعاً في معارض الكتاب، ومع هذا التنامي لدور الكتاب الإسلامي، حدث تنامٍ موازٍ لهذا في انحدار العقل العربي المسلم. لقد أصبحت معارضة آراء ابن تيمية كفراً، ولا يجرؤ أحد على المساس بكتب التراث الديني، وأصبحت محاكمات المثقفين شائعة في هذا العالم المتخلف، وبذلك فقد الإنسان العربي المسلم احترام الآخرين له.