لا شيء يظهر الحال التي آلت إليها الأوضاع العربية مثل ملابسات التصريحات التي أدلى بها في الرابع من يناير الحالي السيد محمود عباس رئيس منظمة التحرير الفلسطينية والمرشح الأقوى لخلافة الرئيس عرفات. قال الرجل بغضب تعليقاً على مذبحة إسرائيلية جديدة أودت بحياة سبعة فلسطينيين بقذيفة في بيت لاهيا في مهرجان خطابي في مدينة خان يونس "نأتي إليكم ونترحم على أرواح شهدائنا الذين سقطوا اليوم بقذائف العدو الصهيوني في بيت لاهيا". من الواضح أن التعبير جاء في سياق بروتوكولي –إذا جاز التعبير- ولم يكن بداية لرؤية جديدة يتبناها محمود عباس المعروف باعتداله الفائق ورهانه على التسوية مع إسرائيل ورفضه المطلق لعسكرة الانتفاضة. ومع ذلك فقد تصدر التصريح عديداً من نشرات الأخبار واحتل مكاناً ثابتاً في شريط الأخبار المتحرك في معظم شاشات التليفزيون المهتمة بالصراع العربي-الإسرائيلي.
بدا الأمر شديد الغرابة ربما لأن العرب قد ارتضوا منذ زمن أن يكون "السلام" هو خيارهم الوحيد، ومن حسن الأدب ألا يوصف شريك السلام الحتمي هذا بأنه عدو وربما لأن التصريح جاء في وقت ازدهار مفاجئ للتطبيع مع إسرائيل من قبل شركائها في السلام "الرسمي"، وربما لأن سمعة الرجل السياسية قد أُسست على موقفه المضاد من عسكرة الانتفاضة، ورهانه على التسوية مع إسرائيل، مع أنها قد خذلته إبان توليه منصب رئيس الوزراء حين شاع أن عملية التسوية هذه لا يمكن أن تحرز تقدماً في ظل قيادة ياسر عرفات. بدا الأمر إذن شديد الغرابة لأنه قد أصبح من النادر أن نسمع من يسمي الأشياء بمسمياتها فيتحدث عن إسرائيل باعتبارها "عدواً" ناهيك عن أن يكون القائل رجلاً كمحمود عباس.
اعترف الرجل لاحقاً بأن ما وقع كان "زلة لسان"، واختار أن يكون "اعتذاره" في حديث لصحيفة إسرائيلية حيث أقر بذلك في مقابلة نشرتها صحيفة يديعوت أحرونوت وفسر زلة لسانه بقوله "في هذه الظروف الاستثنائية لا يمكن لأحد أن يسيطر على كلماته دائماً". وكنت قد بدأت كتابة هذا المقال قبل تراجعه عن وصف إسرائيل بالعدو الصهيوني والذي نشر في صحف الثامن من يناير، وتساءلت: أيكون هذا الوصف زلة نطق بسببها لسان أبي مازن بالحقيقة التي يعرفها عقله جيداً ويتعزز إدراكه لها في كل يوم يشهد الممارسات الغشوم للقوة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فالرجل معذور لأن المذبحة كانت واحدة من أبشع المذابح "إخراجاً" إذا جاز التعبير، ذلك أن الفلسطينيين يُستشهدون كل يوم بأعداد مماثلة وربما أكثر لكن تفاصيل المذبحة كانت مروعة: دبابة إسرائيلية تتمركز فوق تلة مرتفعة تطلق قذيفة مدفعية في اتجاه المزارعين فتقتل سبعة منهم وتصيب تسعة آخرين، تتحول أجساد الشهداء إلى أشلاء متناثرة، تتقطع أوصالهم وتُبتر رؤوسهم وتختفي أعضاء من أجساد الجرحى، وتواجه المسعفين صعوبات في جمع أشلاء الشهداء المتناثرة والتعرف على هوياتهم. وبعد ذلك كله يبدي الجميع دهشته إزاء استخدام مصطلح "العدو الصهيوني" في وصف إسرائيل. فمن يكون العدو إذن إن لم يكن ذلك الذي يقوم على نحو منهجي بهذه الأفعال؟ ومن هم الإرهابيون الحقيقيون إن لم يكونوا أولئك الذين يقتلون الأبرياء ويعرفون أنهم يفعلون ذلك؟ فلعل الإرهابيين الذي يخفقون في قتل ضحاياهم ويتسببون في قتل الأبرياء يستطيعون الاعتذار بأنهم لم يكونوا يدركون أن أفعالهم سوف تتسبب في ذلك. أما الإرهاب الإسرائيلي فهو بالقطع غير قادر على تقديم هذه الأنواع من الاعتذارات لأنه يبصر ضحاياه جيداً قبل قتلهم، ويستخدم كل وسائل التكنولوجيا المتاحة له لكي يكون متأكداً من أنه يقتلهم هم بالذات. ومع هذا كله فقد اعتذر الرجل عما قال وأكد أنها كانت "زلة لسان" حيث لا يحتمل وضعه ما هو أكثر من ذلك.
تساءلت أيضاً قبل أن يتراجع الرجل: أكان محمود عباس "يُصَعِّد" مع إسرائيل؟ وأجبت بأن هذا السؤال لا يمكن أن يكون مطروحاً من أساسه لأن الرجل له برنامجه المعلن، ويعرف حدود قدرته على المناورة، ويعرف كذلك أنه يتعين عليه ألا يغضب حتى لا يفسد المسألة قبل أن تبدأ. تساءلت كذلك أكان يستجيب لتطلعات الجماهير بأن يلعب دوراً أكثر تشدداً في مواجهة إسرائيل؟ لابد بطبيعة الحال أن يحدث ذلك، بمعنى أن يحاول محمود عباس أن يبدو أنه "المُخَلِّص" أمام الجماهير الفلسطينية، ذلك لأنه لم يكن في ذلك الموقف يملك رفاهية محمد دحلان وزير الشؤون الأمنية السابق الذي قدم نموذجاً للتصريحات المألوفة التي عودتنا عليها الدبلوماسية العربية العاجزة بقوله:"إن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية غير مفهوم ويعبر فقط عن استمرار حال الفوضى والمواجهة والعنف". وهكذا يبدو بعضنا أو معظمنا مدعياً حتى الآن أنه لا يفهم سلوك إسرائيل وحكوماتها المتعاقبة منذ أكثر من نصف قرن، ويبقى الموقف مجرد "استمرار لحال الفوضى والمواجهة والعنف" بحيث لا تسمى الأشياء بأسمائها ويوصف جدل الاستعمار والتحرير على النحو السابق المغرق في الفجاجة.
كان سيلفان شالوم وزير الخارجية الإسرائيلي محقاً