عقب احتلال صدام حسين للكويت في عام 1990، كتب المؤرخ ديفيد فرومكين مقالا في مجلة "سميثونيا" استعاد فيه الكيفية التي تم بها تشكيل خريطة منطقة الشرق الأوسط، حيث كتب قائلا:"لقد أفلح تشرشل في تشكيل خريطة الشرق الأوسط بما يتناسب والحاجيات العسكرية والمدنية للإدارة البريطانية. إلى ذلك فسوف يتفاخر تي. إي. "لورانس العرب" لاحقاً بأنه هو وتشرشل وقلة من القادة الآخرين، قد هندسوا خريطة المنطقة في جلسة عشاء واحدة. لكن وبعد مضي سبعين سنة على تلك الهندسة، يظل السؤال قائماً حول ما إذا كانت شعوب المنطقة، راغبة أو قادرة على الاستمرار وفق ذلك التصميم الهندسي؟". واليوم، فإن السؤال نفسه، لا يزال أكثر إلحاحاً وجدية على طاولة البحث. بل هو أكثر إلحاحاً اليوم أكثر من أي وقت مضى. فالذي يحدث الآن في كل من العراق وفلسطين وإسرائيل، ليس سوى لحظة "تشرشيلية" أخرى. والفارق الوحيد هو أن خطوط تضاريس المنطقة، لا تعيد رسمها القوى الإمبريالية، أو تفرض عليها من أعلى، مثلما حدث في السابق، وأنها لن تكون كذلك مطلقاً.
فخطوط هذه المنطقة، ترسمها اليوم ثلاثة نزاعات مدنية داخلية، تحتدم داخل الفلسطينيين، والعراقيين، والإسرائيليين أنفسهم. وكما عبّر عن هذا الواقع، المنظر السياسي الإسرائيلي يارون إزراحي بقوله:إن هناك ثلاثة براكين تنفجر في وقت واحد. ومن كل واحد من الثلاثة، تتدفق حمم "اللافا". وها نحن جميعاً ننتظر متى تبرد هذه الحمم، وأي الأشكال النهائية ستتخذ.
والحقيقة أن مثل هذه الحركة التكتونية التي تحرك الطبقات السياسية الجيولوجية، لا تحدث إلا مرة واحدة فحسب في القرن، شأنها في ذلك شأن كارثة "تسونامي"، التي ضربت سواحل المحيط الهندي مؤخراً، نتيجة حركة تكتونية جيولوجية بحتة. وإنها للحظة سياسية بالغة الأهمية، من نوع تلك اللحظات التي يصعب على المرء أن يفوِّتها، أو أن يسمح لها بأن تمضي على نحو سيئ وكيفما اتفق. ولكن هنا بالذات يكمن الخطر. فحين تنبثق الحدود والدول، جراء نشاط بركاني مزلزل، فإنه ليس بمستبعد حدوث كل شيء. والقاسم المشترك بين هذه الحركات الثلاث، أنها تضع الثيوقراطيين والفاشيين والمتشددين جميعاً في كفة واحدة، علماً بأن هذه القوى عادة ما تدعي لنفسها أنها تعمل وفقاً لمشيئة الرب، أو أنها تمثل المطامح العليا والمصيرية للأمة. وهي تعارض في ذلك الأغلبيات الأكثر اعتدالا وتسامحاً وديمقراطية.
ففي إسرائيل، شرعت الحركة الوطنية الثيوقراطية في العمل سلفاً، والتأثير على مجرى الأحداث هناك. ففي يوم الخميس الماضي، أصدر أربعة من قادة الكتائب الإسرائيلية، وثلاثون ضابطاً آخرون – جميعهم من الذين يقيمون في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية- بياناً في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، أكدوا فيه رفضهم طاعة أية أوامر صادرة بشأن إخلاء المستوطنات اليهودية القائمة في كل من قطاع غزة والضفة الغربية. ويمثل هذا البيان هجوماً مكشوفاً على خطة رئيس الوزراء أرييل شارون المصادق عليها من قبل مجلس الوزراء، الخاصة بالانسحاب أحادي الجانب من أراضي ومستوطنات قطاع غزة، ونطاق ضيق من أراضي الضفة الغربية.
إلى ذلك أعلنت صحيفة "هآرتس" من جانبها أيضاً، أن مجلس كبار الحاخامات بالضفة الغربية، أصدر بياناً دعا فيه كافة الجنود الإسرائيليين إلى إعلان الرفض والتحدي العلني لما يسمى بخطة الانسحاب من قطاع غزة. وقال البيان بلغة دينية صريحة:"إن الأمر بتفكيك المستوطنات، يتعارض وتعاليم التوراة والأخلاق الإنسانية. ولهذا فإن على المرء ألا يساعد في هذا الفعل". وكتب أكيفا إلدار الكاتب والمعلق الصحفي بصحيفة "هآرتس" أن هناك الآلاف من المتطرفين اليهود والمسيحيين، على أهبة الاستعداد والانتظار في الولايات المتحدة الأميركية، بهدف الانضمام إلى صفوف المناهضين لتفكيك المستوطنات والانسحاب في قطاع غزة.
فهل يبدو كل هذا عادياً ومألوفاً للأذن؟ الإجابة بَلَى. ففي العراق، وقبل أسبوع واحد من الآن، دعت جماعة "أنصار السنة" الجهادية هناك، كافة المسلمين العراقيين إلى مقاطعة مراكز الانتخابات، واصفة إياها بأنها "مراكز للإلحاد". ولم تكتف الجماعة بمجرد توجيه النداء فحسب، بل هددت بأن المجاهدين، سيهاجمون مراكز ونقاط الاقتراع هذه. وبالمثل، قاطعت حركة "حماس" ومنظمة "الجهاد الإسلامي"، الانتخابات الفلسطينية التي جرت بالأمس، تماماً مثلما سيفعل "الحزب الإسلامي" الذي يعد الحركة السنية الرئيسية في العراق، في الانتخابات المقبلة. ومن ناحيته، صرح أسامة بن لادن بأن القوانين العراقية قوانين "كافرة" وأن كل من يشارك في الانتخابات يعد "كافراً" بالضرورة.
ومع أن حدسي لا يقول لي مطلقاً، إن في وسع أي من هذه الحركات والقوى الدينية المتشددة، أن تحرز أي نصر حاسم، سواء في العراق أم إسرائيل أم فلسطين، إلا أنها تستطيع أن تعيق الأغلبية في كل من البلدان الثلاثة، عن الوصول إلى أية ترتيبات عملية معتدلة ومتسامحة، لاقتسام السلطة، أو الحدود السياسية في الحالة الإسرائي