لقد برزت صورتان مختلفتان لأميركا في هذا الأسبوع، كلتاهما حقيقية ومهمة من أجل تفهم واقع الولايات المتحدة الأميركية. إحداهما تمثلت في ظهور ألبرتو جونزاليس الذي رشحه الرئيس بوش كنائب عام أمام اللجنة القضائية لمجلس الشيوخ الأميركي وهو يجيب على أسئلة بشأن سلسلة الأحداث التي أدت إلى الفظائع التي ارتكبت في معسكر جوانتانامو وأعمال التعذيب في سجن أبوغريب. وفي نفس الوقت كانت جميع أنحاء أميركا تشهد سخاء وكرماً فياضاً واستثنائياً في تجميع مئات الملايين من الدولارات لتقديمها إلى ضحايا فيضان تسونامي الذي ألحق تدميراً هائلاً في جنوب آسيا.
وبالنسبة لجونزاليس، ففي مقال صدر هذا الأسبوع طلب أحد كتاب صحيفة "الواشنطن بوست" من مجلس الشيوخ قبل أن يصوت بالموافقة على جونزاليس أن يتذكر مدى الغضب والاشمئزاز اللذين شعر بهما النواب عندما وقعت أعينهم أول مرة على صور الفظائع والتعذيب الذي لحق بالسجناء في أبوغريب. وفي مقال مشابه في صحيفة "النيويورك تايمز" حذر أحد الكتاب من أنه في حال المصادقة على تعيين جونزاليس كنائب عام فإن العدالة لن يتم إجهاضها فحسب بل إن أميركا بأكملها ستوصم بهذه الفضيحة. وكتب يقول:"إن تهمة التعذيب ستلحق بنا جميعاً". وكما نما إلى علمنا جميعاً من الوثائق التي تم الإفراج عنها في العام الماضي (على الرغم من أن بعضها ما زال يحتفظ به البيت الأبيض) فإن أعمال التعذيب لم تحدث عن طريق الصدفة ولا يمكن التبرؤ منها بوصفها سلوكاً فردياً. فلقد كانت أكثر انتشاراً وتضمنت سلسلة متسعة من الممارسات الحقيرة وغير المشروعة، وقد تمت أيضاً بمعرفة أعلى المستويات في الإدارة. لذا فإن أكثر ما يصيبنا بالانزعاج هو أنه برغم الفزع الذي ساور الشعب الأميركي عندما بلغته أنباء التعذيب في أبوغريب وعلى الرغم من الأضرار الهائلة التي لحقت بالصورة العالمية للولايات المتحدة وبرغم التعهدات التي بذلت بأن المسؤولين عن الفضيحة سيتم تقديمهم إلى العدالة إلا أن الشخص المسؤول عن إعداد المذكرة الرسمية للبيت الأبيض التي برأت الجيش الأميركي من تهمة انتهاك القوانين الدولية التي تحرم أعمال التعذيب قد أصبح الآن أعلى مسؤول في الدولة عن إنفاذ القوانين. لماذا كل هذه الغطرسة والافتقار إلى مبدأ المحاسبة؟ ذلك للأسف لأننا تعلمنا أن نعمل بهذه الطريقة.
وفي نفس الوقت الذي كانت فيه واشنطن تتابع هذه المسرحية الهابطة كان الملايين من الشعب الأميركي قد أذهلهم حجم المأساة التي وقعت في جنوب آسيا واستنفرت جميع الجهود الوطنية في سرعة فائقة من أجل تقديم العون لمن هم في حاجة ماسة إليه. لقد بات العالم بأجمعه يعلم بالتزام إدارة بوش تقديم معونات بمبلغ 350 مليون دولار مع استعدادها لتقديم المزيد متى ما دعت الحاجة إلى ذلك. ولقد شهدنا أيضاً ترسانة الطائرات العسكرية الأميركية التي خصصت لتوصيل هذه المساعدات وتوفير الدعم اللوجستي لجهود الدول الأخرى. وسمعنا أيضاً ذلك القرار الحكيم الذي اتخذه بوش بالطلب من رئيسين سابقين المساعدة في تشجيع القطاع الخاص للتجاوب مع هذه الأزمة الإنسانية.
لقد كان الرئيس محقاً عندما قال:"إننا نبدي تعاطفنا في استجابة سريعة ولكن الحكومة ليست هي أكبر مصدر للسخاء في أميركا وإنما ما يتمتع به الشعب الأميركي من طيبة قلب". لقد تجلت تلك المساعي فيما وصفه أحد التقارير الإخبارية "بالمد الهائل من السخاء". وهنالك العديد من الشيكات بملايين الدولارات التي تبرع بها العديد من مشاهير هوليوود بالإضافة إلى عشرات الملايين التي منحتها كبريات المؤسسات الأميركية بالإضافة إلى الملايين الأخرى التي تم تجميعها في كل يوم عبر الإنترنت ومن صغار المانحين في جميع أنحاء البلاد.
ومرة أخرى لماذا كل هذا التعاطف والسخاء؟ لسنا متفردين في ذلك ولكن معظم دول العالم قد أبدت مثل هذا التعاطف. ولكن ديمقراطيتنا ولدت وسط مخاض شرور العبودية والإبادة الجماعية. إننا أمة أفرزت عصابة الـ"كوكلكس كلان" وأخرجت أيضاً كبير الإصلاحيين مارتن لوثر كنج. لذلك فإن أميركا بصورتيها ما زالت تلازمنا وتعيش فينا، وأصبح يتحتم علينا تفهم هذا الأمر والتعامل معه كقدر لا مناص منه.