لقد مزقت الحروب الأهلية كبد وأوصال السودان، على قدر ما يستطيع كل واحد منا أن يتذكر. ولكن ها هي فرصة للسلام قد لاحت مؤخراً في سمائه. وتشكل اتفاقية السلام الشامل بين الشمال والجنوب، التي جرى التوقيع عليها في العاصمة الكينية نيروبي، أثناء حفل رسمي أقيم يوم أمس التاسع من يناير الجاري، التطور السياسي الأكثر أهمية بالنسبة لجيل بأسره من السودانيين. فقد واصلت الحروب تدمير هذا البلد على امتداد 37 عاماً من أعوام استقلاله التسعة والأربعين، منذ تحرره من قبضة الاستعمار البريطاني في يناير من عام 1956. وقد بلغت التكلفة البشرية في الضحايا والأرواح، إلى جانب الذين شردتهم هذه الحروب الملايين. وما من زائر يزور الخرطوم، إلا ويلحظ "أحزمة البؤس" التي يعيش فيها النازحون الذين شردتهم الحرب، فأقاموا لهم بيوتاً فيها كيفما اتفق، حول مدن العاصمة الثلاث. وكانت حربان كبيرتان امتدتا أولا من عام 1956 إلى 1972، ثم ثانياً من عام 1983 إلى عام 2002، دارتا بين الشمال العربي المسلم والجنوب الإفريقي، الذي تقطنه بشكل رئيسي المجموعات المسيحية والوثنية. وتحت تصاعد الضغوط الدولية، لا سيما من جانب الولايات المتحدة الأميركية، أمكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، بين الجانبين في شهر أكتوبر من عام 2002. وبعد عامين كاملين من العمل المضني والشاق عقب ذلك الاتفاق، تم التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار بين الجانبين، في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2004، وهو الاتفاق الذي أدى بدوره إلى التوقيع على تسوية شاملة، بحضور ممثلين للأسرة الدولية. بموجب هذه الاتفاقية، تكون الحرب الماراثونية بين الشمال والجنوب، قد وضعت أوزارها، نظرياً على الأقل. وفي هذا بحد ذاته فرصة ذهبية يجب أن تغتنم.
يذكر أن المهندسين الرئيسيين لهذه الاتفاقية، هما نائب الرئيس السوداني، علي عثمان محمد طه، الذي مثل الحكومة المركزية في الخرطوم، ورئيسها عمر حسن أحمد البشير، والعقيد جون قرنق، القائد الرئيسي لحركة التمرد الجنوبية، المعروفة باسم الجيش الشعبي لتحرير السودان. وبموجب هذه الاتفاقية، يتحول السودان إلى دولة فيدرالية ،خلال فترة انتقالية مدتها ست سنوات، يقرر في نهايتها الجنوب حقه في تقرير المصير في إطار الوطن الموحد، أو الانفصال كدولة مستقلة، بموجب استفتاء شعبي يجرى بهذا الشأن. وفي غضون ذلك، سيتم اقتسام السلطة والثروة والعائدات النفطية، بين الجنوب والشمال، على أن يتولى العقيد جون قرنق، منصب نائب الرئيس، بينما يجلس ضباطه السابقون، جنباً إلى جنب مع أعداء الأمس في قبة البرلمان السوداني، في حلتها وتشكيلتها الجديدة.
هنا تبدأ كبرى المشكلات الخاصة بإعادة البناء والتعمير. فالشاهد أن جنوب السودان الذي مزقته ودمرته الحروب، يعد واحدة من أكثر بقاع الأرض بؤساً على الإطلاق. فقد هجرت غالبية السكان قراها وديارها بسبب القصف الجوي الذي تعرض له المواطنون، علاوة على سياسة "الأرض المحروقة" التي انتهجتها المليشيات القبلية المسلحة التي نشرتها الحكومة ضد المتمردين هناك. وبالنتيجة، فإن البنية التحتية للمنطقة –بما يشير إلى الطرق وخدمات الكهرباء والمياه والمدارس والمستشفيات- تكاد تنعدم تماماً. وفي بعض المناطق، تبلغ نسبة الأمية، معدلا يصل إلى 80 في المئة من مجموع السكان. ومما لا شك فيه أن مئات من آلاف النازحين، العائدين إلى قراهم وبيوتهم المحروقة المدمرة، سيحتاجون إلى مساعدات إنسانية دولية، يصل حجمها حجم تلك المطلوبة لضحايا كارثة المد البحري في سواحل المحيط الهندي، إن كان لهذه المساعدات أن تستأنف. وللسودان موارد نفطية هائلة، تستطيع أن تعينه على أن يقف على رجليه ثانية. ذلك أن معدل إنتاجه الحالي من النفط، يقدر بنحو 330 ألف برميل يومياً، يصدر معظمه إلى الصين. وفي وسعه إنتاج كمية إضافية، تصل إلى 200 ألف برميل يومياً، من أحد حقوله الجديدة بحلول شهر يوليو المقبل.
والآن وقد تم التوقيع على اتفاقية السلام، فهل تعود كبرى الشركات العالمية المنتجة للنفط إلى السودان مجدداً، وتسعى إلى توسيع ورفع سعة الإنتاجية فيه، وهي حاجة ماسة اليوم؟ إنه لسؤال رئيسي ومحوري بحق. غير أن الإجابة الأكثر ترجيحاً والأقرب للاحتمال، هي أن تنتظر هذه الشركات إلى حين الفراغ من نزع فتيل حرب مدمرة أخرى هناك. وتدور رحى تلك الحرب، هذه المرة، في إقليم دارفور، الواقع في الجزء الغربي من البلاد. وحتى هذه اللحظة، تكاد الشركات الآسيوية وحدها تنفرد بعمليات استكشاف وإنتاج النفط في السودان. يذكر أن هذه الحرب "الدارفورية" التي شجبتها الولايات المتحدة الأميركية، واصفة إياها بأنها حرب تطهير عرقي، قد حصدت سلفاً، أرواح ما يقدر بنحو 70 ألفاً من مواطني الإقليم، بينما شردت أعداداً منهم تفوق المليون مواطن على الأقل.
وعليه، فإن الكثير مما هو مرتقب لهذا البلد، يتوقف على ما سيجري للأزمة الدارفورية. ولما كان السودان لا يزال في القائمة الأميركية السوداء، الخاصة بالدول التي ترعى الإرهاب، فإن ذلك سيق