تعاني مجتمعاتنا ممارسات فوضوية عدة، ومن بين مظاهر الفوضى هذه ما يحدث في سوق الإعلانات الصحفية والتلفزيونية. ولعل الكرنفالات الإعلانية التي تنشرها صحفنا اليومية هي خير برهان على هذه الفوضى، التي تتعدد وتتفاوت مظاهرها وأشكالها. وهذه الفوضى تحدث أحياناً نتيجة غياب السياسات والخطط الإعلانية، سواء لدى المعلن أو الوسيلة بدليل أن إحدى الصحف المحلية نشرت الأسبوع الماضي إعلانين بارزين لحملات الحج والعمرة ودست بين الإعلانين إعلاناً بنفس المساحة والألوان وأدوات الإبراز لمستخلص طبي يعالج "الضعف الجنسي"! كما تحدث هذه الفوضى في أحيان أخرى بسبب عدم وجود رقابة من أي نوع على ما ينشر من إعلانات. ولن نصدق في هذا الإطار ما يتردد أو ما يقال بشأن حصول إعلانات دكاكين الأعشاب - مثلا - على موافقات أو تصاريح نشر مسبقة لإعلاناتها من هذه الجهة أو تلك، إذ لا نتصور أن هناك من يوافق على منح أي من هذه الدكاكين موافقة على نشر إعلان يفيد بمقدرة "خبرائها" على علاج قائمة طويلة وعريضة من الأمراض، التي تبدأ بارتفاع ضغط الدم وتنتهي بالربو والسكري مروراً طبعاً بالعجز الجنسي الذي يعد قاسماً مشتركاً وموضوعاً رئيسياًً ومحورياً في جميع إعلانات هذه الدكاكين.
من يطالع صحف الإعلانات المجانية وكذلك الصحافة المحلية ربما يخرج بإحدى نتيجتين تخضعان لنية القارئ وليس لاختلاف الرؤية أو التقدير والتقويم. فإذا كان القارئ حسن النية وقليل الخبرة بالحياة والألاعيب التجارية، فسيعتبر أن لدينا متخصصين ومشافي رفيعة المستوى في علاج جميع الأمراض. ولكن القفز إلى هذه النتيجة ينكره الواقع الذي يفيد بأن لدينا ارتفاعاً قياسياً في معدلات الإصابة بمرض السكري وضغط الدم نتيجة انتشار العادات الغذائية السيئة وثقافة "التيك آواي" وغياب الرياضة من مدارسنا وبالطبع أيضاً زيف ادعاءات العلاج. فلو كان نصف ما تدعيه هذه الإعلانات صحيحاً، لكنا قد ربحنا المليارات من عائدات السياحة العلاجية ولتحولت الإمارات وبقية دول مجلس التعاون التي تنتشر بها هذه النوعية من الإعلانات إلى قبلة لملايين المرضى الباحثين عن علاج من الأمراض المستعصية، ولكنا قد رفعنا راية التحدي والمنافسة في وجه مناطق الاستشفاء والمستشفيات المنتشرة في دول جنوب شرق آسيا وأيضاً في أوروبا والولايات المتحدة، ولتحولت وجهات السياحة العلاجية من هذه الدول والمناطق إلى دولنا الخليجية! أما إذا كان القارئ "سيئ النية" فربما يكتشف أن هذه الصحف - المجانية والمدفوعة على حد سواء - تستهدف أناساً مهووسين بالعلاجات الجنسية وإزالة النمش وآثار الزمن!
صحيح أن هذه الإعلانات هي العمود الفقري لاقتصاديات الصناعة الإعلامية في الوقت الراهن، ولكن هذا الهوس الإعلاني غير المبرمج يعود بنتائج عكسية على المعلن والمنتج والوسيلة في آن واحد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية