ستجرى ابتداءً من التاسع من يناير الحالي الانتخابات الفلسطينية بكافة مستوياتها. وبرغم أن الدولة الفلسطينية كاملة السيادة لم تخرج إلى النور بعد، إلا أن موضوع إجراء الانتخابات في حد ذاته يشكل خطوة متقدمة يخطوها الشعب الفلسطيني نحو تحقيق مصالحه المستقبلية بالشكل الذي يرتئيه مناسباً. وبغض النظر عن الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من الأراضي الفلسطينية، وقيام إسرائيل باقتحام الأراضي الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية بشكل متكرر، والاستمرار في بناء الجدار العازل، وجميع العقبات والإرهاصات التي يمر بها الشعب الفلسطيني في مرحلة ما بعد ياسر عرفات، إلا أنه يبدو أن إرادة هذا الشعب قوية جداً ويسعى إلى تحقيق طموحاته في وسط ظروف صعبة للغاية.
ووفقاً لقانون السلطة الفلسطينية فإنه في حالة وفاة رئيسها لابد وأن تجرى انتخابات لإيجاد بديل له خلال ستين يوماً من وفاته. وإعمالاً لهذا القانون فإن الاستعدادات جارية على قدم وساق لانتخاب الرئيس البديل في التاسع من يناير 2005. واستكمالاً لذلك فإن من المتوقع أن تجرى انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني لاحقاً هذا العام. وهي وإن لم يحدد تاريخ معين لها إلا أن كافة الأوساط المهتمة بالشأن الفلسطيني تتحدث عن عقدها في الوقت المناسب من هذا العام. وسيتم لاحقاً استكمال ما تبقى من الانتخابات البلدية التي أجريت حتى الآن في 26 من التجمعات السكانية الفلسطينية الصغيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبالرغم من أن الانتخابات الفلسطينية ستجرى وسط محيط إقليمي لا زال يفتقد إلى التجربة الانتخابية الصحيحة، إلا أنه على ضوء النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التي أجريت في الأراضي التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية عام 1996 يمكن الإشارة إلى أن فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة يمكنهم إجراء انتخابات حرة ونزيهة نتيجة للخبرة المتراكمة لديهم في هذا المجال.
إن ما يدل على رضى الفلسطينيين عما يقومون به بالنسبة للعملية الانتخابية هو إقبالهم الشديد على التسجيل لها، فقد قام بالتسجيل للمشاركة في الانتخابات القادمة حتى الآن حوالي 70 في المئة تقريباً من الفلسطينيين الذين لهم حق الاقتراع. وهذه تعتبر نسبة عالية جداً من الأصوات التي تسجل لكي تنتخب مقارنة بالنسب المتوافرة من دول أخرى في المنطقة، وهي أعلى من النسب التي أحصيت في دول ديمقراطية عريقة في أوروبا، وتقترب من النسبة المسجلة في الولايات المتحدة الأميركية. ويعتبر التسجيل للانتخابات مهماً لأنه يعكس قدرة مؤسسات البلد الذي تجرى فيها والإرادة الديمقراطية للشعب الذي تجرى في وسطه تلك الانتخابات، وجميع الدلائل تشير إلى أن الفلسطينيين قد قاموا بذلك بكفاءة حتى الآن.
ومن الأمور التي تجعل المرء يشير إلى أن الفلسطينيين قادرون على إجراء انتخابات حرة ونزيهة وناجحة هي الانتخابات الأخيرة التي أجريت كما أشرنا جزئياً للمجالس البلدية. فعلى غير المتوقع جاءت نتائج تلك الانتخابات لصالح "حماس"، أو حركة المقاومة الإسلامية، التي تعتبر المنافس الأول لحركة "فتح" الحاكمة. وحركة فتح هي التي تسيطر على معظم المجالس البلدية منذ انتخابات 1996. فلو لم تكن الانتخابات حرة ونزيهة وعادلة، ولو لم تقف فتح موقفاً محايداً منها لما تمكن ممثلو "حماس" من الفوز بالمقاعد التي فازوا بها. إن فوز حماس هذا ذو دلالات مهمة، وعندما يتبوأ مرشحوها الفائزون مقاليد السلطة التي ستناط بهم سيكون ذلك حدثاً تاريخياً هو الأول من نوعه في التاريخ الفلسطيني، وستكون هي المرة الأولى التي تخدم فيها "حماس" المجتمع الفلسطيني من مواقع السلطة.
وباختصار فإنه إذا لم تتم إعاقة الناخب الفلسطيني من التوجه إلى صناديق الاقتراع لأي سبب من الأسباب، فإن الانتخابات الفلسطينية القادمة في 9 يناير 2005 يتوقع لها أن تعطي المنطقة العربية سابقة في نزاهة الانتخابات وجديتها ومصداقيتها والنتائج التي تتمخض عنها. وستساعد الشعب الفلسطيني كثيراً على تحسس أموره المستقبلية بشكل لم تسبقه إليه الشعوب العربية الأخرى. فمن سيأتون إلى السلطة ستكون لديهم شرعية كاملة، مثلما ستكون شرعية القيادات البيروقراطية التي سيتم انتخاب العديد منها. نرجو ألا يقع ما يعكر صفو التجربة الديمقراطية الفلسطينية.