جاءت الكارثة الطبيعية المهولة التي ضربت جنوب شرق آسيا لتختم العام المنصرم، على نحو مأساوي ورهيب. يكفي القول إن عدد الضحايا مرشح، في بعض التقديرات، لبلوغ رقم فلكي هو 200 ألف رجل وامرأة وطفل! وتكفي المقارنة في الأرقام التي أذاعتها الحكومات الأوروبية بين من قضوا ومن لا زالوا، حتى كتابة هذه الأسطر، مفقودين للتأكد من أن كارثة تسونامي من نوع يكاد يكون خرافياً. فالدانمرك مثلاً أعلنت وفاة 7 أشخاص فيما مفقودوها 490 شخصاً، والسويد أعلنت وفاة 60 شخصاً فيما المفقودون 3559 شخصاً، وهكذا دواليك. وقد لا يكون عديم الدلالة على حجم ما حصل أن يكتب رئيس أساقفة كانتربري الدكتور راون ويليامز في "صنداي تلغراف" البريطانية أن تلك المأساة قد تهز إيمان البعض منا!
إلا أن الكارثة، مع هذا، أتت تعيد الاعتبار لعدد من البديهيات التي صارت البرهنة عليها مهمة صعبة كما لو أنها مجرد أحلام وطوباويات. فقد قضى في ضربة واحدة من ضربات الجنون الطبيعي عشرات الآلاف أغلبيتهم الساحقة من المسلمين، إلا أن في عدادهم هندوساً وبوذيين وسيخاً ومسيحيين ويهوداً، وربما أبناء ديانات صغيرة أخرى كانوا في عداد السكان المحليين أو في عداد السياح. كذلك توزع الضحايا على عدد من البلدان التي ربما فصلت بينها النزاعات السياسية والترابية وما سوى ذلك· وفي البلد الواحد نفسه نزلت الكارثة بخصوم سياسيين وأهليين قد لا يتفقون على شيء. وهذه الحقيقة الكونية إنما تعيدنا إلى حقيقة أعمق، مفادها وحدة الجنس البشري أقلّه في مواجهة الطبيعة، وأن التناقضات كلها تصاب بالضمور والتراجع حيال هذا التناقض الوجودي المرير. ذاك أن التقدم، في معناه الأبسط والأبعد في آن معاً، هو النجاح في تذليل تلك الطبيعة المجنونة وإخضاعها من قبل البشر، لمصلحة حياتهم وسعادتهم ورقيّهم. فهي حين تُنزل الموت بنا لا تميز بين شعب وشعب، وبين دين ودين، وإثنيه وإثنية. فلماذا إذاً نواجه هذا التحدي الواحد الموحّد ونحن مفرّقون متخاصمون شعوباً وأدياناً وأثنيات؟ وكيف يجوز، تالياً، أن يُعمينا الخلاف حول قطعة أرض عن واقع أن الأرض كلها قد تميد بنا وتدفعنا إلى حيث تطوينا جميعاً يد النسيان؟
لكن الحقائق المذكورة تصطدم تعريفاً، وهي قد اصطدمت دائماً، بعدد من المصالح والتعصبات وضيق الأفق مما منح ويمنح الأولوية للصراع والتنازع على حساب التعاون والتكامل الإنسانيين. وواقع الحال أن المأساة الأخيرة التي تعدّت آسيا إلى شواطئ أفريقيا الشرقية، إنما حصلت مع بلوغ تلك التعصّبات ذروة غير مسبوقة يُستدل عليها بسياقين يعملان راهناً على قدم وساق: الأول، صعود الهويات والإثنيات التي ربما كانت الأصوليات العقائدية والإرهابية أخطر تعابيرها.
والثاني، الأجندة الأحادية التي تحكم الحرب على الإرهاب وتملي منطقها، كما لو أن التحديات الضخمة الأخرى، من فقر وجوع ومرض وضربات طبيعية، لا وجود لها إلا اعتباطاً واستثناء.
والسياق الأول لا يمنح البشر "الآخرين" غير الوعد بالإلغاء والاجتثاث في "جنة" التماثل الكامل، فيما الوعد الذي يقدمه السياق الثاني هو أن ننسى كل شيء ما خلا مكافحة الإرهاب بعد فصله عن أي سبب اجتماعي مُعزز ورافد له. وما من شك في أن التصدي لهذين السياقين، وفي وقت واحد، تعبير عن التمسك بوحدة الإنسانية في مواجهة الموت والطبيعة، بقدر ما هو شرط لتحسين ظروف المواجهة مع الطبيعة والموت.
وهذا الكلام الذي يسهل وصفه، بل وصمه من قبل بعض "الواقعيين"، بالطوباوية، ليس عائقاً يقف في طريق الإدراك الواقعي لاختلاف السياسات والمصالح والأفكار. بل هو دعوة إلى تبيّن أن الاختلاف ينبغي أن يبقى محكوماً بحدود الموت والفناء، ومن ثم الشراكة الإنسانية في المعركة ضد الموت والفناء. وبعض ما يترتب على هذا الوعي ضرورة العمل على ضبط النزاعات ما أمكن الضبط، وحيوية الاشتغال على تطوير آليات وأدوات لامتصاصها، أو إبقائها عند حدود من الاستيعاب لا تتعداها. ذاك أن دفع النزاعات إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه يفضي إلى تبرير استخدام أكثر الأسلحة تدميراً وأشدها إهلاكاً. وهذا ما يجعل بعض البشر حلفاء موضوعيين لقوى الطبيعة العمياء ضد بشر آخرين هم ضحاياها وضحاياهم.
وفي المقابل، فإن في وسع أي تفكير إيجابي قليل الأنانية والتعصب، وكثير الانتباه إلى وحدة المصلحة الإنسانية في التعاون ضد الطبيعة، أن يعمل في اتجاه مغاير. فليس من المبالغة، على الإطلاق، أن نقول إن ثمة حقائق أساسية جداً تصلح، ولو مبدئياً، للوقوف في مواجهة السياقين السلبيين المذكورين أعلاه. ذاك أن فرصاً أربعاً على الأقل توافرت في السنوات القليلة الماضية، وهي قابلة للتوظيف في صورة مغايرة لما يجري الآن.
فنهاية الحرب الباردة مثلاً، أولاً، يمكن أن تفتح الباب لمزيد من الاستثمار في المعركة ضد الطبيعة والعوارض المهلكة الأخرى، ولتوسيع جبهة المنخرطين في هذا الصراع النبيل. وثمة، ثانياً، مشاكل تستدعي بطبيعتها العمل على نطاق عابر للحدود الوطنية، يحدوه التعاون بين الحكومات