بعد رحيل الزعيم الذي قاد النضال الفلسطيني لعشرات السنين وترك إرثاً سياسياً واقتصادياً وإعلامياً كبيراً، يبدو أن الشعب الفلسطيني بات مقبلا على فترة حاسمة. فلقد رحل أبو عمار عن هذا العالم بما له وما عليه وأصبحت المرحلة الجديدة تتطلب تعميق عملية تنمية تقاليد ديمقراطية حقيقية وبناء مؤسسات راسخة تكون قادرة على تسريع وتيرة الإصلاح الذي طال انتظاره وترتيب أوضاع البيت الفلسطيني على أسس راسخة. وبالفعل، فإن ضعف الأداء السياسي والاقتصادي الفلسطيني في الفترة السابقة، بالإضافة إلى السهولة النسبية التي تمكنت إسرائيل بموجبها من اجتياح مدن وبلدات الضفة الغربية، كشفا مناحي الخلل في أجهزة ومؤسسات السلطة وأثرا على قدرتها في النهوض بواجباتها سواء على الصعيد الوطني، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي. وفي كل ذلك، فإن واقع السلطة الفلسطينية ومؤسساتها لم يكن غائباً عن الغالبية العظمى لأبناء الشعب وطلائعه وفصائله، وعن هيئات المجتمع المدني الفلسطيني على اختلاف أطيافها السياسية. فلقد "تميزت" الفترة السابقة بغياب أو (تغييب) واضح لحكم المؤسسات الملتزمة بأنظمة عمل جدية، وفي التقصير في تحقيق فصل واضح بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية. وفي غياب المأسسة والشفافية وفصل السلطات، وصلت الأمور داخل السلطة الوطنية إلى طريق شبه مغلق وانتشر الفساد والإثراء غير المشروع (وكون دول عربية وغير عربية أكثر فساداً لا يغير من الموضوع شيئاً!).
ومن هنا، فإن على القيادة الجديدة التي استلمت زمام الأمور بعد وفاة الرئيس عرفات، على درب كسب تعاطف الشعب معها وتأمين المصداقية الضرورية، المسارعة إلى محاسبة كل من تطاول على المال العام أو أساء استخدامه أو استخدام السلطة. كما يجب إعادة الاعتبار للمساءلة وفقاً لمبدأ:"من أين لك هذا؟". أما الركود وتقليص التجدد (اللذين لازما العمل الفلسطيني لفترة طويلة) فقد كانا نتيجة وسبباً في الركود العام داخل مؤسسات السلطة والأحزاب والمنظمات الشعبية، مثلما وفـّرا المناخ المساعد على التعفن والفساد، مع إضعاف الجبهة الداخلية على نحو أضعف –بالتالي- أي جهد تحرري في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
لقد وصلت الأمور إلى هذه الدرجة من التأزم رغم البدايات المشجعة في البناء الوطني التي أعقبت اتفاقيات أوسلو. يومها، ظهر وكأن "ديمقراطية البنادق" بدأت تتحول إلى "ديمقراطية المؤسسات". فالرئيس ياسر عرفات يكاد يعتبر أول رئيس عربي يفوز بانتخابات حرة (بشهادة 1635 جهة وممثلا عربياً ودولياً شاركوا في مراقبة الانتخابات) تنافس فيها أكثر من مرشح وهو أمر نادر الحدوث في أنظمة الحكم العربية والعالمثالثية. هذا، إضافة إلى انتخابات "المجلس التشريعي الفلسطيني" وهو من البرلمانات العربية القليلة المنتخبة بصورة مباشرة وحرة من قبل الشعب. ويبدو أن القيادة الجديدة المؤقتة، وتلك التي ستفرزها الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في التاسع من يناير الجاري، مصممتان على تفعيل مؤسسات الدولة ومحاربة الفساد سواء بقوة الرغبة الذاتية أو بسبب ضغوط حقيقية وقوية من القوى الحية في المجتمع الفلسطيني. وكخطوة أولى في هذا الطريق ومن أجل دمقرطة مؤسسات الدولة، أعلن عن إجراء انتخابات المجالس البلدية والقروية الفلسطينية وذلك لأول مرة منذ عام 1976. وقد شهدت صناديق الاقتراع إقبالا كثيفاً الأمر الذي استدعى تمديد فترة التصويت.
وتعود كثافة الإقبال إلى حرص جميع الفصائل الفلسطينية على المشاركة بمن فيها الأطراف المعارضة للعملية السلمية وبخاصة حركة حماس – كبرى الفصائل من "خارج" منظمة التحرير الفلسطينية. وكان من المقرر أن تجري الانتخابات المحلية كذلك في عشر دوائر في قطاع غزة، إلا أنها أرجئت إلى السابع والعشرين من الشهر القادم بسبب الاجتياحات الإسرائيلية للقطاع. وتشكل هذه الانتخابات المرحلة الأولى من أربع مراحل أهمها تلك التي ستجري في المدن الفلسطينية خلال الأشهر المقبلة. ومن المهم ملاحظة أن شدة الإقبال على التصويت هي دليل واضح على رغبة الشعب الفلسطيني الكبيرة في التغيير وفي التعبير عن رأيه بحرية وشفافية كاملتين.
وقد جـرت الانتخابات في (26) دائرة بمشاركة (887) مرشحاً لاختيار (306) مقاعد في المجالس البلدية والقروية في الضفة الغربية. وقد تنافس في الانتخابات مرشحون من مختلف الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى مرشحين مستقلين. ومن جهته، رحب رئيس الوزراء أحمد قريع بمشاركة جميع الفصائل الفلسطينية في الانتخابات مشدداً على ضرورة مشاركتها في عملية صنع القرار عن طريق صناديق الاقتراع. وكان قريع قد أدلى بصوته في قرية أبو ديس قرب القدس حيث أشاد بالانتخابات واصفاً إياها بأنها الخطوة الأولى نحو إقامة دولة فلسطينية وأنها الخطوة الأولى للعملية الديمقراطية.
وبالإضافة إلى الانتخابات البلدية والقروية، ستجري –تحت إشراف عربي ودولي- انتخابات رئاسية في التاسع من يناير الجاري في الضفة والقطاع بالرغم من الاحتلال والحصار الخانق. ويعتب