شهد عام 2004 تصاعداً ملحوظاً في الأطروحات والمشروعات الإصلاحية المتصلة بالعالم العربي. جاء بعضها من الخارج مثل مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الأميركي ومبادرة الدول الثماني الصناعية الكبرى، وجاء بعضها من الداخل مثل وثيقة مكتبة الأسكندرية وبيان صنعاء ومشروع القمة العربية في تونس. ويمكننا أن نلاحظ أن موجة الكتابات التي غمرت الصحف العربية منادية بالإصلاح قد صبت في ثلاثة أنساق: أولها نسق الإصلاح السياسي المتصل بتنمية الديمقراطية وتعميق الحريات. وثانيها الإصلاح الاقتصادي المتصل بتنمية الموارد والعناية بالطبقات الضعيفة والمهمشة، والثالث الإصلاح الاجتماعي الثقافي والمتصل بالتنمية البشرية ومحاربة الفساد وتجديد الخطاب الديني وإطلاق ثقافة التفكير العقلاني دون الالتفات إلى نسق حاسم وهو القيم الأخلاقية.
لقد تبين لي أن هناك تجارب لشعوب رفضت وضع الحكم الشمولي واستطاعت أن تفرض نظاماً جديداً يقوم على الديمقراطية وصندوق الانتخابات الحر، وبالتالي قامت هذه الشعوب باختيار حكام جدد قدموا لها وعوداً باحترام قيم الديمقراطية والحريات وبإطلاق عملية تنمية اقتصادية وبشرية.
إن بعض هذه التجارب أسفرت عن خيبة أمل كبيرة لدى الشعوب. فقد تحول الحكام الجدد المنتخبون انتخاباً ديمقراطياً إلى حكام مستبدين بدرجة أو أخرى وبدلاً من الوفاء بوعودهم تعمقت الأزمة الاقتصادية، وازداد حرمان المحرومين وتفشى الفساد ما أدى إلى انقلاب في مشاعر وأفكار الناس ليصبحوا رافضين لما طالبوا به أول الأمر وهو الديمقراطية وليعودوا إلى تأييد فكرة المستبد العادل القادر على الوفاء باحتياجاتهم الاقتصادية.
وعلى سبيل المثال يبين تقرير الأمم المتحدة الأخير حول الديمقراطية في أميركا اللاتينية حالة الإحباط وخيبة الأمل التي تنتاب نسباً كبيرة من الناس تجاه الديمقراطية في بلدانهم. فقد تبين أن الحكومات المنتخبة تفشل في تلبية الحاجات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين وبالتالي أصبح الناس يفضلون نظاماً مستبداً على نظام ديمقراطي نظراً لوجود حاكم ديكتاتور يستطيع أن يصلح أحوالهم الاقتصادية. ويوافق 60% من الزعماء السياسيين الذين تم سؤالهم من جانب واضعي التقرير على وجود فشل ديمقراطي ويعترفون بأن عمل الأحزاب الديمقراطية دون مستوى التوقعات. ويأتي هذا التقرير ليؤكد نتائج عملية استطلاع رأي سابقة جرت في دول أميركا اللاتينية من جانب الأمم المتحدة أيضاً عام 2002 كشفت عن أن 38% من الناس في هذه الدول يوافقون على أن الديمقراطية فشلت في بلادهم وأن 52% يقبلون بنظام استبدادي يستطيع أن يوفر لهم فرصاً اقتصادية تحسن أوضاع حياتهم.
إنني أعتقد أن هناك ضرورة حيوية للالتفات إلى النسق الغائب في مشروعات الإصلاح في ضوء هذه النتائج المحبطة. ذلك أن غياب نسق القيم الأخلاقية عن تجارب الإصلاح في العالم لا يؤدي إلى أكثر من تغييرات في نظام إدارة المجتمع تنتهي إلى كونها تغييرات شكلية لا تنعكس في حسن الأداء ولا في التزام الحكومات الجديدة المنتخبة بقواعد الطهارة والشفافية والخضوع للمحاسبة ولا في السعي الجاد نحو تنمية الموارد الاقتصادية والبشرية للمجتمع بما يخفف من مشكلات الفقر والبطالة والحرمان والفساد. من المهم في تقديري أن نلتفت إلى كنز قيم الأمة الكامن في تعاليم الدين والذي يتجسد في نماذج تاريخية سابقة للحكم العادل والطاهر والنزيه الذي يضع مصلحة الأمة فوق مصلحة الفرد والذي يعلي من شأن قيم الأمانة والصدق والرحمة.
إن هذا النسق للقيم الأخلاقية موجود في كافة الأديان وهو بارز وظاهر في تعاليم القرآن الكريم. وأهمية هذا النسق تنبع من قدرته على تخلل نسيج النفس الإنسانية للفرد ولغالبية أفراد المجتمع بحيث يصبح الإصلاح والحفاظ على الصلاح نابعاً من داخل النفس وليس مفروضاً عليها من خارجها. في تقديري أن هذا النسق هو الفريضة الغائبة في مشروعات الإصلاح التي تعتبر أن مجرد تغيير نظم الإدارة كفيل بتحقيق الإصلاح وثبت لها أنها كانت واهمة.