مما لاشك فيه أن حوار الثقافات اشتدت الحاجة إليه خصوصاً في العقود الأخيرة، بعد ذيوع نظرية "صراع الحضارات" التي صاغها عالم السياسة الأميركي صموئيل هنتنغتون. ومما يعطي بصيصاً من الأمل سيادة الاتجاهات التقدمية التي تؤمن بوحدة المصير الإنساني، بالنسبة للاتجاهات الرجعية التي تنظّر للعنف والصراع، وتقدم بذلك خدمة إيديولوجية صريحة للولايات المتحدة الأميركية التي تحولت إلى إمبراطورية كونية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. ويكشف عن كل ذلك الانتقادات العنيفة التي وجهت لنظرية صراع الحضارات من داخل الدوائر الأميركية والغربية الثقافية، ومن داخل الدوائر الثقافية في بلاد العالم الثالث. وقد زاد من بروز الجبهة العالمية للحوار ضد معسكر الصراع، الخطاب التاريخي الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس محمد خاتمي، والذي لقي الإجماع الكامل من كل أعضاء الجمعية العامة، والذي دعا فيه إلى ممارسة حوار الثقافات على الصعيد العالمي. واستجابت الأمم المتحدة وقررت أن يكون عام 2001 هو عام حوار الثقافات. وتطبيقاً لذلك نظمت هيئة اليونيسكو مؤتمراً دولياً عن حوار الحضارات عقد في ليتوانيا، وأتيح لي – بناء على دعوة رسمية – أن أقدم بحثاً عن مفاهيم الثقافة والحضارة في القرن الحادي والعشرين.
كان العالم قد نشط بالفعل في مجال حوار الثقافات على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي، ودارت حوارات شتى سعياً للوصول إلى الفهم المتبادل كما أسلفنا، غير أنه وعمليات الحوار الكثيفة تجري في أنهار شتى، إذا بالعالم يروع بأحداث الزلازل المريعة التي ضربت بلاداً آسيوية عديدة، وأدت إلى فيضانات غير مسبوقة، حيث اندفعت الأمواج الكاسحة من أعماق المحيطات، لتحطم كل شيء في طريقها، مما أدى إلى وقوع ضحايا بمئات الآلاف، وتشرد الملايين ممن فقدوا مساكنهم وممتلكاتهم.
وقد أدت هذه الزلازل والفيضانات إلى زلزلة الوعي الكوني المعاصر، وسرعان ما بدأت موجات كثيفة من التعاطف الإنساني، الذي لا يفرق بين دين ودين وجنس وجنس. وهكذا أتاحت هذه النوائب غير المسبوقة حواراً فعالاً بين المجتمعات والشعوب بغير تمهيد مسبق، ليعلن ذلك عن بداية تحول حوار الثقافات من مجرد الفهم المتبادل إلى التعاطف الإنساني الشامل، والذي يعد – كما أكدنا في دراساتنا السابقة – بتبلور مذهب إنساني جديد Humanism يتخلق ببطء وإن كان بثبات، حيث تتصاعد الدعوة من منابر شتى في الغرب والشرق، إلى صياغة عقد أخلاقي كوني جديد لا يقنع فقط بضبط حركة الأسواق الرأسمالية السائدة من خلال إدخال البعد الأخلاقي في كل الممارسات الاقتصادية، ولكن لإقامة الجسور بين الأديان المختلفة، وصياغة نسق قيمي كوني يأخذ في الاعتبار أساساً الحفاظ على الكرامة الإنسانية، وتحقيق أمن الإنسان، والتركيز على ذلك بدلاً من التركيز على اعتبارات الأمن القومي بآفاقه الضيقة، والذي لا يعبر إلا عن المصالح الأنانية للنخب السياسية الحاكمة، وما تعبر عنه من مصالح طبقية.
ولا شك أن كل هذه التحولات في بيئة المجتمع العالمي وفي إدراكات النخب والمثقفين والشعوب، قد نجمت عن الإحساس العام بأن المجتمع العالمي يتحول من الأمن النسبي إلى مجتمع المخاطر. وقد التفتنا في إطار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلى أهمية رصد تحولات المجتمع العالمي، وتشكل فريق بحث من مجموعة من الخبراء تحت إشرافي لدراسة عدد من التغيرات العالمية الجوهرية.
أول هذه التحولات الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار بعيدة المدى، وتحول هذا المجتمع إلى ما يطلق عليه مجتمع المعرفة.
والتحول الثاني الانتقال من الشمولية إلى الديمقراطية وبزوغ المجتمع المدني العالمي. والتحول الثالث بروز ظاهرة العولمة وحلولها محل الاقتصاد العالمي التقليدي. والتحول الرابع الانتقال من مجتمع الأمن إلى مجتمع المخاطر، والتحول الأخير في نظرية الأمن القومي العالمي، وبزوغ عصر الشبكات والإرهاب الجديد. ولعل أبرز هذه التحولات من حيث تأثيرها على أمن الإنسان هو تحول المجتمع العالمي المعاصر ليصبح مجتمعاً زاخراً بالمخاطر. وأصبحت فكرة "مجتمع المخاطر" نظرية سوسيولوجية سائدة لرصد وتحليل مختلف أنواع المخاطر، والتي تجد مصادرها في إمكانيات التلوث الإشعاعي الذري، وقد زاد انفجار مفاعل تشيرنوبل الروسي من هذه الاحتمالات، وسلبيات الهندسة الوراثية، وظهور أمراض جديدة (كالإيدز وجنون البقر) وشيوع أمراض خطيرة كالسرطان نتيجة لتسرطن البذور الزراعية، والمنتجات الزراعية بشكل عام.
وترتبط "نظرية الخطر" باسم عالم الاجتماع الألماني "إيرليش بيك" الذي أصدر كتاباً بنفس الاسم بالألمانية تمت ترجمته إلى اللغة الفرنسية. وينطلق "إيرليش بيك" في محاولة توصيف التغيرات الحادثة في مجتمعات نهاية القرن العشرين – كما يقرر د. عمرو حمزاوي في بحثه الذي قدم لنا في مشروع "تحولات المجتمع العالمي" - من قناعات أولية أربع هي:
أولاً: أن