استقبلت الخرطوم مطلع هذا العام الجديد بصورة لم تشهدها منذ سنوات كثيرة خلت. فالعاصمة القومية التي كانت تبدو وحتى زمن قريب في مسائها وكأنها مدينة بلا روح، وفي صباحها كان يبدو بعض ساكنيها الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى الخروج للعمل، وكأنهم ذاهبون لأداء الأعمال الشاقة المحكوم بها عليهم. هذه المدينة التي عاشت سنوات الحزن والمآتم الكئيبة، خرجت مطلع العام وكأنها قد وُلدت من جديد. آلاف وآلاف مؤلفة من البشر خرجوا من كل فجاج العاصمة المترامية الأطراف بغير ترتيب ولا تنظيم مسبق، يدفعهم شوق عارم للسلام، ويهز وجدانهم بُغض مكبوت وكراهية ورفض لحرب جائرة وظالمة ظلوا يمضغون مرارتها ويدفعون ثمنها الغالي ومعهم وطن أوشكت الحرب أن تحيله إلى عدم. ويخطئ من يتصور أن عامة هؤلاء الناس وسواهم كانوا يوماً من أنصار الحرب. لذلك كانت فرحتهم واستبشارهم بالسلام وخروجهم التلقائي هذا، تعبيراً وجدانياً عن آمالهم وأحلامهم في وطن جديد تظلله رايات السلام ويسوده العدل والأمن والأمان لكافة أهله قاطني الغرب والشرق والجنوب والشمال والوسط. فالحرب التي كان الجنوب أكبر مسارح عملياتها قد ضربت آثارها المدمرة كل السودانيين، وخلفت جراحها الغائرة في كل النفوس الحية، ومن حق كل السودانيين ذوي الضمائر الحية أن يهنئوا أنفسهم اليوم بهذا النصر الذي تحقق، لأنهم بإصرارهم العنيد على تحقيق السلام ونبذهم لطريق الاقتتال والحرب الخاسرة، هم الصناع الحقيقيون للسلام المرتجى وهم الضمانة الحقيقية لاستمراره واستدامته وتحويله إلى حقيقة مشرقة وباهرة مثلما كانت الحرب بالأمس حقيقة قبيحة ومظلمة.
ذلك لا ينفي ولا يلغي جهود "المجتمع الدولي" والإقليمي، الأشقاء والأصدقاء والجيران، الذين ساندوا قضية السلام السوداني ودعموها ورفدوها بكل الوسائل. لكن الاستبشار بالسلام الذي أطل على السودان أخيراً، يجب ألا ينسينا أن للسلام أعباء ومتطلبات وأن أمامه عقبات ودروباً صعبة ووعرة لا تقل وعورة ولا صعوبة عن طرق الحرب والاقتتال. إن إزالة وكنس مخلفات الحرب الطويلة والمهلكة هي التحدي الحقيقي الذي سيواجه السودان في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة، وهو تحدٍ تستحيل مواجهته والتغلب عليه إلا بإرادة سودانية صادقة وواعية ومدركة ومستعدة لدفع أقصى التضحيات من أجل توفير أسباب النجاح للسلام وإدامته.
ولهذا التحدي الذي سيواجه السودان اليوم عدة جبهات منها السياسي والاقتصادي والأمني، ولكن أخطرها وأهمها في حسابي هو الجبهة الفكرية والثقافية وما يتفرع منها من فروع. ففي بلد سادت فيه ثقافة الحرب والاقتتال تصبح أولى متطلبات السلام هي نشر ثقافة السلام وإعلاء شأنها وتعميق مرتكزاتها ليس فقط وسط عامة الناس بل وأساساً وسط هذا القطاع الفكري والثقافي الذي تغذى ورضع ثقافة الحرب الكريهة وعاش عليها، وهي زاده الوحيد طوال سنوات التيه المظلمة. إن الانتصار على مناخ الحرب والاقتتال الفكري والثقافي، لن يتحقق إلا بمناخ بديل هو مناخ الديمقراطية والحرية والإقرار بالحقوق الإنسانية لجميع السودانيين، وأولها حقهم في العدل والمساواة أمام القانون.
وإذا كان هذا صحيحاً - وهو صحيح- فإن أولى الناس بإدراكه والتعبير عنه بصورة إيجابية وعملية هي الحكومة. فلكي توفر للسلام مناخه المطلوب فإن أول واجباتها أن تغير من أسلوب خطابها القديم وأن تنتقل بخطابها وأعمالها في جبهة الفكر والثقافة إلى مقتضيات اليوم ومتطلباته العاجلة.