الحديث عن التغيير في البلدان العربية يركز على تغيير الأوضاع السياسية في الدرجة الأولى. ويكاد هذا التغيير المطلوب ينحصر في المطالبة بالديمقراطية المختلف في كثير من الأحيان حول شكلها ومحتواها وأهدافها من قبل السلطات السياسية ومن قبل مؤسسات المجتمع المدني على السواء.
التغيير السياسي الحقيقي، يحتاج إلى ثقافة التغيير، ومربط الحصان إذن، هو تجديد الثقافة العربية الإسلامية، لتصبح ثقافة راغبة في التغيير وقادرة عليه. وهذا بدوره يحتاج إلى أن يتم في مستويين.
أما المستوى الأول فيتلخص في مراجعة تفكيكية نقدية لتراث الأمة الثقافي، وذلك من أجل إعادة تركيب الصالح منه ليتلاءم مع مقتضيات العصر من جهة، وليكون قاعدة انطلاق لتجاوز الحاضر نحو مستقبل أفضل من جهة أخرى. وعبر القرنين الماضيين جرت محاولات عدة لإجراء تلك المراجعة. لكنها ظلت حبيسة الجهد الفردي، وحبيسة ساحة ثقافية محدودة، وفشلت في أن تصبح تياراً عريضاً قادراً على الدخول في نسيج المجتمع العربي ومقبولا من مختلف شرائحه.
أما المستوى الثاني، فيتمثل في الاستفادة القصوى من منجزات العصر والتي هي في الدرجة الأولى منجزات الحضارة الغربية في الخمسمائة سنة الماضية. وهذه الخطوة أيضاً جرت محاولات كثيرة لإتمامها ظلت هي بدورها حبيسة التقليد الأعمى أو البلادة في الفهم والاستيعاب أو الغياب الكامل للندية الفكريـة. وهذه أيضاً فشلت في أن تصبح تياراً عريضاً مقبولا من أغلب شرائح المجتمع العربي. بل، وخلافاً للكثير من المجتمعات الأخرى، أصبحت قضية التحديث والعصرنة إحدى أعقد القضايا في الحياة العربية المعاصرة وتسببت في وجود مشاحنات وانقسامات اجتماعية لا حصر لها و لا عد.
هذه الحلقة المتشابكة بين التغيير السياسي والتجديد الثقافي أصبحت حلقة مفرغة تدور حول نفسها. وبالرغم من أنها كانت ولا تزال موضوعاً للكثير من الكتابات والمناقشات، إلا أن الاقتراب من حسمها أصبح كابوساً لم ينجح أحد في إنهائه. ذلك أن هناك مدرسة فكرية سياسية كبيرة تعتقد أن الخطوة الأولى المنطقية هي في إسقاط أنظمة الحكم العربية الحالية التي فشلت في عملية التحديث من جهة، ونأت بنفسها عن عملية تجديد التراث الثقافي من جهة أخرى. بينما تقابلها مدرسة كبيرة أخرى ترى أن الخطوة الأولى يجب أن تكون في التغيير والتجديد الثقافي من أجل تهيئة المجتمع للمساهمة في عملية الإصلاح السياسي المطلوب والتمسك بنتائجه المتحققة بعد ذلك. وفي اعتقادي، أن المجتمع العربي قد فشل حتى الآن في بناء كتلة قادرة على ترجيح كفة إحدى المدرستين. ذلك أن موضوع العلاقة بين السياسي والثقافي ليس ترفاً فكرياً يمكن حصره في مداولات المؤتمرات أو على صفحات الكتب إلى ما لا نهاية، إذ أن حسمه ستكون له مضاعفات كبرى في نوعية النشاطات التي يجب أن يقوم بها الفرد العربي وفي نوعية المؤسسات التي يجب أن تُبنى في المجتمع المدني. ومن هنا الأهمية الكبرى للانتقال من مستوى الجهود الفردية أو جهود الجماعات الصغيرة ذات الإمكانيات المحدودة إلى مستوى المؤسسات الكبرى ذات الإمكانيات المالية والبشرية والمعرفية الكبيرة والغزيرة.
حسم موضوع السياسي والثقافي سيكون إحدى الأدوات المهمة في انتقال الإنسان العربي من مرحلة الأقوال إلى مرحلة الأفعال. ولن يفيدنا القول بالأخذ بالاثنين، فالتغييرات الكبرى تتطلب اختيار السكاكين الحادة.