ليلة عيد الميلاد 2004 قامت "قوة الصواريخ الاستراتيجية الروسية" بإطلاق صاروخ باليستي متطور عابر للقارات محمول براً من نوع M-SS-27 Topol. ويمكن القول إن تجربة هذا الصاروخ قد أبطلت تماماً الفرضية والتقنية التي قامت عليها "المنظومة الوطنية للدفاع الصاروخي" التي يتم الآن تطويرها ونشرها من قبل إدارة بوش، كما أنها تلقي بظلال من الشك على نهج الإدارة الأميركية المتعلق بالحد من الأسلحة ونزعها.
عندما بدأت عملي كمفتش أسلحة في الاتحاد السوفيتي السابق وتحديداً خلال الفترة 1988- 1990، كان الصاروخ SS-25 (وهو الصاروخ السابق في الإنتاج على الصاروخ SS-27 ) ينظر إليه على أنه يمثل التهديد الأول الذي يواجه الولايات المتحدة في مجال الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهو ما أدى إلى تخصيص جهود أميركية عديدة لمعرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن هذا الصاروخ وقدراته. وتم بالفعل جمع أكبر عدد من المعلومات والبيانات عن هذا الصاروخ، وهو ما ساعد قطاع الاستخبارات الأميركي على الفهم الدقيق للطريقة التي تعمل بها المنظومة السوفيتية الصاروخية بكاملها، وقد تمت ترجمة هذا الفهم فيما بعد في صورة عدد من الاستراتيجيات المضادة للصواريخ، منها العمليات الجوية المتعلقة بحرمان العدو من استخدام هذه النوعية من الصواريخ، وصياغة مفاهيم جديدة للدفاع الصاروخي.
وكان الأداء السيئ للغاية للعمليات الأميركية المضادة لصواريخ "سكود" خلال حرب الخليج 1991، قد ألقى الضوء على نواحي القصور الموجودة في النظام الأميركي المستخدم لحرمان العدو من استخدام الصواريخ المتحركة. فعلى الرغم من السيادة الأميركية المطلقة على سماء المعركة في ذلك الوقت فإن المنظومة الأميركية لم تتمكن من اكتشاف أو حرمان العراقيين من استخدام صواريخ "الحسين" كما لم تنجح في تدمير حاملة صواريخ عراقية واحدة. وعقب سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، قامت وزارة الدفاع الأميركية بإجراء مراجعة شاملة من أجل التوصل إلى استراتيجية، وإلى هيكل للقوة الأميركية الصاروخية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهي المرحلة التي تلاشى فيها خطر التهديد الصاروخي الذي تمثله روسيا، كما دخلت صناعة الصواريخ فيها مرحلة من الركود.
وبعد النصر الساحق الذي حققه الجمهوريون في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام 1994، تم اقتراح برنامج جديد للدفاع الصاروخي يغطي ثلاثة مجالات محددة من مجالات قدرات التهديد المتوافرة لدى الروس التي تتراوح ما بين "التهديدات غير المتطورة" والتي يقصد بها (الهجمات التي تتم بواسطة 5 رؤوس حربية مزودة بوسائل تمويه وخداع مبسطة) إلى "التهديدات فائقة التطور" أي (الهجمات التي تتم بواسطة 20 رأساً حربياً من النوع SS-25 المزودة بوسائل تمويه أو غيرها من الإجراءات الدفاعية المضادة). وبلغت الأموال المخصصة لهذا المشروع من 8 الى10 مليارات دولار خلال الفترة من 1993-2000.
وعندما جاء الرئيس بوش إلى الحكم عام 2001، حدث تغير جذري في موقف الإدارة بشأن منظومة الدفاع الصاروخي الباليستي، وذلك عندما أعلنت عن انسحابها من "معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية" ABM للتخلص من القيود التي تفرضها المعاهدة على تطوير تلك الصواريخ وعلى النواحي العملياتية الخاصة بها. وفي نفس الوقت قامت الإدارة بوضع خطة شاملة، تقوم على منظومة دفاع مضاد للصواريخ، متعددة الطبقات، وتركز على اعتراض الصواريخ المعادية عقب إطلاقها بفترة وجيزة، كما تركز على الأنظمة الليزرية المقامة في قواعد فضائية مصممة لتدمير الصواريخ المعادية أثناء طيرانها، وعلى منظومات اعتراض للصواريخ تقوم بتدمير الصواريخ عندما تدخل المجال الجوي للأرض مجدداً في مرحلتها الأخيرة وقبل انقضاضها على أهدافها المحددة.
بيد أن ما يمكن أن يقال في هذا الشأن، هو أن حلم إدارة بوش بإقامة نظام وطني للدفاع الصاروخي، قد تحول إلى ضرب من الخيال، بعد التجربة الناجحة التي أجراها الروس على الصاروخ M-SS-27 Topol. فوفقاً لما يقوله الروس، فإن هذا الصاروخ مزود بمعززات Boosters فائقة السرعة وتعمل بالوقود السائل تقوم برفع الصاروخ بسرعة رهيبة في الفضاء، مما يحيل عمليات اعتراض الصاروخ في مرحلة التعزيز إلى عمليات شبه مستحيلة.
علاوة على ذلك يقول الروس أإنهم قد قاموا بتقوية بدن الصاروخ الجديد كي يكون أكثر قدرة على تحمل الأسلحة الليزرية، كما قاموا بإدخال تطويرات عليه جعلته يتمتع بقدرة عالية على المناورة في مرحلة ما بعد التعزيز، وقادراً بالتالي على هزيمة أية أسلحة تعترض طريقه. ولكي تتمكن الولايات المتحدة من مواجهة التهديد الذي يمثله هذا الصاروخ فإنها في حاجة إلى أن تبدأ من نقطة الصفر.
ولكن حتى إذا ما قامت بذلك، فإن الروس قد يقومون بنشر صواريخ أكثر تطوراً مما يبقى الإجراءات الأميركية المضادة للصواريخ متأخرة دائماً بخطوة عن الروس. والولايات المتحدة غير قادرة على إنفاق مليارات الدولارات على منظومة دفاع صاروخي، لن تحقق أبداً مستوى الدفاع