أصبح الجدل على جانبي المحيط الأطلسي يتمحور حول ما إذا كانت إدارة بوش الثانية ستتعامل مع أوروبا بشكل أحادي أم متعدد الجوانب. وبالنسبة إلى واشنطن حالياً فإن الخيار لا يبدو وكأنه يتعلق بالأهواء وإنما بالسلوك الواقعي. ولعل من الكياسة والحكمة أن تلجأ إلى التعامل بشكل "جماعي" مع الآخرين حتى وإن لم تكن في حقيقة الأمر تولي أهمية لآرائهم. وأعتقد أن كوندوليزا رايس تتمتع بسلوك واقعي أفضل من دونالد رامسفيلد على سبيل المثال. وبلا شك فإن مكانة وشخصية كولن باول قد جعلت محاوريه الأوروبيين يعتقدون أن التواصل معه من الممكن أن يؤدي إلى تغييرات في السياسة الأميركية. ولكنهم اكتشفوا في نهاية المطاف أن تأثير باول محدود وأن إدارة الرئيس بوش تفضل التعامل بشكل أحادي وبعناد شديد.
ولكن الأمر في مجمله ليس مشكلة تتعلق فقط بإدارة بوش، إذ يبدو أن الأحادية استمرت تمثل نموذجاً أميركياً منذ وقت طويل. وكان التحالف الغربي قد ظل يتشكل ويصطبغ بنوع من الأحادية الأميركية الرسمية بعد عام 1948 عندما تم إنشاء حلف الناتو. ثم جاء ديجول ليصبح أول من يتحدى إرادة وأفكار واشنطن ويختار في نهاية الأمر إبعاد فرنسا عن قيادة حلف الناتو. واختار بقية الحلفاء الاستمرار في العمل بشكل جماعي. ولكن بعد حملة القصف والتفجيرات التي شنها حلف الناتو ضد صربيا في عام 1999 أعلنت القوات الجوية الأميركية أنها لن تدخل "مرة أخرى" في حروب تعتمد على ذلك التحالف. وبذلك فقد تم شن حرب الخليج بتحالف قادته أميركا من خارج حلف الناتو. وعندما أعلن دونالد رامسفيلد في بداية الحرب على الإرهاب أن المهمة هي التي ستحدد نوع التحالف الذي يتم حشده توقف حلف الناتو بشكل عملي عن أن يصبح حليفاً عسكرياً وفضل أن يبقى مجرد معاون في وضع اللمسات الأخيرة للعمليات العسكرية الأميركية.
إن التعددية جزء لا يتجزأ من الدبلوماسية وهناك عداء أميركي متأصل للدبلوماسية التي تعني في جوهرها النقاش والتفاوض والتوصل إلى تسوية. وتماماً كما كتب "هانز جيه مورجنثاو" الباحث السياسي الألماني- الأميركي المولد مؤخراً فإن الدبلوماسيين الأميركيين حتى قبل نشوب الحرب العالمية الأولى (في عهد إدارة الرؤساء كوليدج وهوفر وودرو ويلسون) قد مارسوا ما يعرف بـ"دبلوماسية العاصفة". وكتب يقول: لقد تجلى ذلك في التقدم المفاجئ باتفاقية يتعين على الدول الأخرى رفضها أو القبول بها كما هي. ويفترض أن تنال النصوص الفعلية لهذه الاتفاقية القبول من جميع الدول الأخرى. ولكن نفس هذه النصوص تفتقد إلى إمكانية إخضاعها للتعديل أو المناقشة أو التنازلات. إن أياً من الأشخاص الذين تسنى لهم التعامل مع إدارة بوش يمكنه ملاحظة هذا السلوك أيضاً.
بل إن من المؤكد أن السياسة الخارجية لجورج بوش في فترته الثانية ستمضي على نفس النهج. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية فإن الولايات المتحدة الأميركية ستستمر في مراقبة تقدم الاتحاد الأوروبي بهدف احتواء إمكانياته كمنافس سياسي واقتصادي وتكنولوجي حقيقي للولايات المتحدة. وربما تعول على إمكانية تقسيم أو "تفكيك" الاتحاد الأوروبي كهدف يخدم المصالح الأميركية. وإلى ذلك فإن الأهداف الدولية الأميركية ستستمر من خلال شن الحرب على الإرهاب ومطاردة الأفراد والعصابات بالإضافة إلى العمل على "تغيير الأنظمة" في الدول المارقة وداخل الأنظمة العربية الديكتاتورية بهدف خلق الشرق الأوسط الجديد. وستنطوي الأمور على حملة شرسة على نشاطات انتشار الأسلحة النووية بالإضافة إلى دعم واضح للسياسات الإسرائيلية ما يعني (كما وصفها هنري سيجمان عضو مجلس العلاقات الخارجية مؤخراً) استحداث دولة فلسطينية اسمية في بعض مناطق الضفة الغربية تحت سيطرة إسرائيلية. وأغلب الظن أن الإدارة ستعمد إلى العمل بنظام الدفاع الصاروخي الأميركي بهدف احتواء الصين وروسيا بالإضافة إلى التوسع في الشبكات الأمنية الأميركية في آسيا وبعض المناطق الأفريقية التي تزخر بموارد الطاقة. على أن أولى الأولويات الأميركية ستركز على تهدئة الأحوال في العراق التي باتت تمثل أكبر مشكلاتها. وسيظل الهدف هو جعل العراق حليفاً استراتيجياً وقاعدة للنشاطات الأميركية في منطقتي الشرق الأوسط ووسط آسيا. إن العراق سيمثل المشكلة الأكبر أمام الإدارة الأميركية نسبة للفشل الذريع الذي تواجهه هناك والذي ربما يجبرها في نهاية المطاف على المغادرة. وعلى كل فقد بات بإمكاننا أن نشهد المزيد من التحولات في العراق مع اقتراب موعد الانتخابات وتزايد كثافة أعمال العنف والاضطرابات.
وفي جميع هذه المجالات فإن إدارة بوش من دون شك تحتاج إلى حلفاء، ولكن جورج بوش أشار أثناء حملته الانتخابية إلي أنه "لن يترك أمن أميركا" في أيدي الأمم المتحدة أو "دول مثل فرنسا" ولا حتى في عهدة قوات مخلصة كحلف الناتو. لذا فإن الأحادية الأميركية كما تمارسها إدارة بوش ليست مجرد شعور بالغرور الوطني أو بعظمة القوة وإنما هي موقف ومبدأ مدروس. وكانت كوندوليزا رايس قد ادعت أمام نظرائها الأجانب (ت