على الرغم من أن ذلك العام الذي ولى منذ أيام قلائل كان عام هجمة وحشية على العرب إسرائيلياً وأميركياً في فلسطين والعراق، وهي هجمة لم تراع الحد الأدنى من أبسط حقوق الإنسان التي يرتفع صراخهم بخصوصها ليل نهار، وليس هذا حكمنا نحن وإنما حكم وسائل إعلامهم ذات الضمير المهني الرفيع وتقارير لجان تحقيقاتهم النزيهة.
وعلى الرغم من أن عام 2004 يمكن أن يوصف بأنه عام السكوت العربي الرسمي عن هذه الهجمة الشرسة والتكيف معها، فما عاد صوت يرتفع برفض سلوك القائمين بالاحتلال وإدانته، وإنما أصبح التعبير عن "القلق مما يجري" هو أشد المصطلحات وأقواها في قاموس الدبلوماسية العربية، بل إن هذه الدبلوماسية تتعاون بهمة في تنفيذ عمليات سياسية في الساحتين الفلسطينية والعراقية على أمل أن تفضي إلى "إنهاء الاحتلال" ولا يدري المرء أتصدق الدوائر الدبلوماسية العربية حقاً أن مثل تلك العمليات الشوهاء يمكن أن تحقق غاية الاستقلال أم أنها لا تجد أمامها بديلاً آخر طالما قبلت فكرة التكيف مع تداعيات الهجمة الإسرائيلية- الأميركية.
على الرغم من أن الهجمة الشرسة طيلة عام 2004 لم تكن قاصرة على احتلال فلسطين والعراق وممارسات سلطات الاحتلال فيهما وإنما امتدت إلى التدخل الصريح في شؤون دول عربية كلبنان وسوريا والسودان على النحو الذي يهدد دون شك تماسك الأوضاع الداخلية فيها. وعلى الرغم من أن دولاً عربية أخرى تواجه نتيجة لهذا كله ومرتبطاً به تحديات أمنية داخلية على نحو لا يبدو عارضاً بما ينذر دون شك باتساع رقعة عدم الاستقرار في المنطقة، ويعكس ضراوة هذه الهجمة من جانب وهشاشة الأوضاع الداخلية في عدد من البلدان العربية من جانب آخر.
على الرغم من كل ما سبق وغيره فقد فضلت أن أطلق على عام 2004 عام المقاومة العربية. قد يكون من حق الفنان المبدع لا الباحث العلمي أن يركز على الزاوية التي يريد أن يظهر من خلالها إبداعه بغض النظر عن الصورة الكلية لما ينوي أن يعبر عنه، ولكن أليس من حق الباحث الموضوعي الملتزم بقضايا أمته أن يركز بدوره على أحد أبعاد المشهد الراهن الذي تعيش هذه الأمة في إطاره لعله يأتي من هذا البعد بقبس يضيء به الطريق؟ ليست المقاومة هي اللون الغالب على اللوحة العربية لعام 2004 إذن أو الملمح الرئيسي فيها ولكنها بأحد المعايير "شخصية العام" إذا جاز التعبير.
هي شخصية العام لأنها عملت في ظل ظروف غير مسبوقة. تمثلت من جانب في استخدام مفرط للقوة ضدها من جانب القائمين بالاحتلال، وقد يكون هذا معتاداً في ظل تجارب الاحتلال والتحرير لكن غير المعتاد من جانب آخر أن تعمل المقاومة في ظل غياب شبه تام للدعم الخارجي من محيطها العربي، ولا نقصد بالضرورة بغياب الدعم جانبه المادي وإنما يشمل هذا أيضاً التعاطف المعنوي سياسياً وقانونياً وإعلامياً، فالدوائر العربية الرسمية تركز في الحالة الفلسطينية على ضرورة الهدوء وإنهاء عسكرة الانتفاضة تمهيداً لتسوية لن تجيء بهذه الطريقة، أما المقاومة العراقية فقد تجاهلها محيطها العربي الرسمي منذ ذلك اليوم من أيام سبتمبر 2003 الذي ارتضت فيه الدول العربية جلوس ممثل مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه الاحتلال في مقعد العراق بجامعة الدول العربية.
سيقولون إن المقاومين حفنة من "الإرهابيين"، وعلى الرغم من أن تهمة "الإرهاب" لم تخرج من ألسن عربية كثيرة بخصوص المقاومة الفلسطينية إلا أنها كانت ماثلة في الجدل الذي دار وما يزال حول مشروعية العمليات الاستشهادية، ولعل المتابعين لتطور المقاومة الفلسطينية على أية حال يدركون أنها في الآونة الأخيرة قد ركزت على عدد من العمليات النوعية الموجهة ضد قوات الاحتلال على سبيل الحصر وكأنها بذلك تسعى إلى دفع تهمة "الإرهاب" الظالمة عنها، أما الحالة العراقية فحظيت بنصيب الأسد من تهم "الإرهاب". صحيح أن الساحة العراقية قد شهدت وما زالت أعمالاً "إرهابية" تتعين إدانتها بكل السبل الممكنة غير أن عين المرء المنصف لا يمكن أن تخطئ رؤية مقاومة حقيقية ضد الاحتلال ومشروعه إلا إذا كان خيارنا هو العمى الكامل.
سيقولون إن المقاومة السلمية هي الوسيلة المثلى للحصول على الاستقلال وإعادة البناء والإعمار، وإن "غاندي" في هذا السياق قد حرر الهند بالأساليب السلمية وحدها، وإن اليابان وألمانيا اللتين لم تقاوما الاحتلال الأميركي قد أصبحتا قوتين اقتصاديتين كبيرتين في عالم اليوم، فنقول إن خبرة تجارب التحرر الوطني تشير إلى أن الاستقلال قد تحقق بإحدى الوسيلتين أو بهما معاً: النضال السلمي والكفاح المسلح وأن ثقل كل من الوسيلتين في تجربة ما قد توقف على طبيعة المستعمر وكذلك طبيعة الشعوب الخاضعة للاحتلال. فهناك تجارب بدأت سلمية وانتهت كذلك كالتجربة الهندية، وثمة تجارب أخرى لجأت إلى السلاح من بدايتها إلى نهايتها كما في فيتنام، وهناك من بدأ سلمياً وانتهى عسكرياً كالتجربة اليمنية الجنوبية، أو من بدأ عسكرياً وانتهى بالنضال المدني كتجربة جنوب إفريقيا. ليس ثمة قالب واحد إذن يتعين علينا أن