قلت في مقال سابق لي إنه برحيل عرفات، وإعادة انتخاب جورج بوش، تظهر فرصة جديدة للسلام في فلسطين. إن كلا الاستنتاجين خاطئ، بسبب أن أسس الواقع السياسي في كل من أميركا وإسرائيل، لم يطرأ عليها أي تغيير. فعلى رغم الغياب الواضح لسيادة الفلسطينيين، واستمرار الاحتلال المذل المفروض عليهم من قبل إسرائيل، إلا أن هناك عدداً من المبادرات المهمة التي يمكن أن ينهض بها الفلسطينيون والعرب، من شأنها أن تسفر عن تحسين الأوضاع الراهنة التي يعيشونها. أولى هذه المبادرات أن يعاد ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل.
وأول خطوة يتعين على الفلسطينيين اتخاذها، هي إعادة تنظيم قيادة مؤسساتهم الوطنية، وانتخاب وتنصيب قيادات محلية ووطنية جديدة، وإنشاء مؤسسات حكومية أكثر شفافية ومسؤولية يمكن التعويل والاعتماد عليها، وإنشاء هيكل أكثر وحدة وتنظيماً للقوات الأمنية الفلسطينية، علاوة على العمل من أجل خلق إجماع وطني. وتمثل كل هذه الخطوات، أعمال مقاومة شجاعة، تستحق الدعم والمؤازرة.
يذكر أن إسرائيل، وعلى امتداد أكثر من نصف القرن، ظلت ترفض الاعتراف بوجود الفلسطينيين كأمة لها كيانها الوطني. وكان أحد الأهداف الرئيسية لأرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي وحزبه الليكود، تفكيك السلطة الفلسطينية من الأساس. لكن بثباتهم وإصرارهم على ترتيب أوضاعهم من الداخل، إنما يتحدى الفلسطينيون هذا الهدف الإسرائيلي ويهزمونه. وعلى الرغم من أن هذه القيادة الفلسطينية الجديدة، لن تجد تحولا يذكر في موقف إسرائيل حيال الاستجابة للمطالب الفلسطينية، الخاصة بالحل السلمي للنزاع، كما لن تجد في أميركا قوة دولية تمارس ما يلزم من الضغط على إسرائيل بغية الامتثال والاستجابة لمطالب الفلسطينيين، إلا أنها - القيادة الفلسطينية- ستكون في وضع أفضل يمكنها من أن تظهر للعالم أجمع، أن مطالب الفلسطينيين المرفوعة، لم تكن مجرد نزوة من نزوات ياسر عرفات، وأنها تعكس إرادة الشعب الفلسطيني وتعبر عنها. كما ستكون هذه القيادة في وضع أفضل، تستطيع من خلاله، أن تحسن إدارة ومراقبة وطلب وصرف المساعدات المالية الدولية الموجهة للفلسطينيين، فضلا عن قدرتها على الاستجابة على النحو الأمثل لسلوك إسرائيل ونهجها الاحتلالي.
ثانياً: لابد من الإقرار بأن كلا من أبو مازن ومصطفى البرغوثي، قد أصابا كبد الحقيقة، بدعوتهما لوضع حد للعنف والقتال، وقولهما إن على القيادة الوطنية الفلسطينية أن تقود وتبتكر أسلوباً مستمراً في تحدي إسرائيل والتصدي لها عبر الوسائل السلمية. فالشاهد أن العنف المميز للانتفاضة الفلسطينية، قد اتسم بالخطأ الأخلاقي، إلى جانب كارثيته وخطورته من الناحية السياسية. فقد أدى هذا العنف خدمات جليلة للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، بقيادة أرييل شارون، وساعد على تفكيك السلطة الفلسطينية، ونفي الشرعية عن القادة الفلسطينيين، وانتهاج سلوك وحشي وعدواني عام تجاه كافة الفلسطينيين. وعليه فإن الرد الوحيد الممكن على هذا التعسف الإسرائيلي، هو قيادة حملة فلسطينية مستمرة، تقوم على سياسة اللاعنف.
ثالثاً: لا يمثل استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، مبرراً لإهمال القيادات العربية لأوضاع الفلسطينيين ومأساتهم. فمجرد الشكوى من استمرار الاحتلال، لا تحل بديلا للمساعدات التي ينبغي على العرب تقديمها للفلسطينيين، والتخفيف من سوء الوضع الإنساني الذي يعانونه. وما أكثر البرامج الملهمة لمثل هذه المبادرات، نذكر منها "صندوق الرعاية الاجتماعية الفلسطيني" ومبادرات "مؤسسة الشيخ زايد للأعمال الخيرية". وهي مبادرات يمكن البناء عليها وتعميمها كاستراتيجية عربية يمكن بها التخفيف من وطأة الظروف الإنسانية التي يعانيها الفلسطينيون جراء استمرار الاحتلال. وليس ذلك فحسب، بل تستطيع هذه المساعدات، دعم جهود إصلاح البيت الفلسطيني من الداخل، وانتخاب القيادة الفلسطينية الجديدة أيضاً. ومع أن جميع هذه المبادرات، لا تمثل بديلا للسلام، إلا أنها تعد شرطاً من شروط توصل الفلسطينيين للسلام العادل.
رابعاً وأخيراً: ينبغي على كل من العرب والفلسطينيين العمل من أجل كسب الرأي العام الأميركي لصالح موقفهم وقضيتهم.