خلق الله الإنسان وأودع فيه من أسرار خلقه ما يذهل له العقل البشري المتفكر والمتدبر والمتأمل، قال تعالى "فتبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون 14)، وقال "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" (الملك 3). وشاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يكون بنو البشر متفاوتين في صورهم وألوانهم وأطوالهم وأوزانهم وقواهم وطاقاتهم البدنية وقواهم وطاقتهم الذهنية والعقلية، وطاقاتهم وحالاتهم واستعداداتهم النفسية، ومعنوياتهم وقد تكون الأرواح متشابهةً أو متفاوتةً فالأرواح لا يعلم أسرارها إلا الله. وهم متشابهون في الطبيعة الآدمية من حيث تركيبة أجسادهم. ولقد شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن تنقسم كافة الطاقات البشرية (أي الجسدية والذهنية والنفسية والمعنوية) إلى قسمين: فمنها ما هو وراثي جيني فطري متأصل في الجينات الوراثية للإنسان، ومنها ما هو مكتسب من البيئة ومن تجارب الحياة والتعلم الإرادي واللاإرادي، وكلاهما يدعمان بعضهما بعضاً. كما خلق الحق سبحانه وتعالى البشر متفاوتين في كسبهم وأرزاقهم وأقواتهم. وعلَّمَهم الله سبحانه بأنهم لا يرزقون ولا يكسبون بحولهم ولا بقوتهم مهما كانت قوتهم وطاقاتهم، وإنما يرزقون بحول الله وقوته وبإرادته ومشيئته. فكم من إنسان ذكي جداً بل وعبقري أحياناً أو قوي بدنياً نجده فقيراً، وآخر لم يكن له نصيبٌ كبيرٌ لا في القوة الذهنية ولا البدنية نجده غنياً، وكم من رياضي مفتول العضلات يفاجئه المرض فيفتك به فجأة، وكم من كهل ضعيف البدن يتجاوز عمره المئة سنة بدون أمراض، وكم من غني يتمنى إنجاب طفل واحد أو يتمنى راحة البال، وكم من فقير يتمنى أن يجد طريقة لتحديد النسل أو ينام الليل كله لا يوقظه سوى أذان الفجر، فسبحان مقسم الأرزاق. ومن هذا المنطلق فرض الله الزكاة والصدقات وحث على إنفاق العفو. ويُعتبر الإنفاق بهذا المفهوم آية عظيمة من آيات الله في إعادة توزيع الأرزاق والأقوات بين بني البشر (أي إعادة توزيع الدخل القومي) بعدالة السماء الحقة. ولقد أمر الحق سبحانه الإنسان ووجَّهه وحثَّه على التفكر والتدبر والتأمل والتبصر، والتدقيق والتحقق من صحة المعلومات، وعدم الاستعجال في إصدار الأحكام، واحترام العقل واستخدامه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى والامتناع عن استخدامه فيما يغضب الله سبحانه. وحرَّم الله الخمر وكل ما يؤثر تأثيراً سلبياً على العقل تقديراً وقدسيةً لهذا المخلوق العجيب. فلا شك أن الطاقة الذهنية التي أودعها الله سبحانه في الإنسان كآية من آياته العظمى في هذا الكون من الممكن أن يتم استخدامها في الخلق والإبداع والاكتشافات العلمية بما يخدم البشرية ويصلح أحوالها، ويضيف إلى الاقتصاد قيماً مضافةً تساهم في زيادة الإنتاجية وزيادة رفاهية الأمم والشعوب وتدفع بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام. ومن الممكن أن تستخدم الطاقات الذهنية في أمورٍ سلبية كاختراع وتطوير أسلحة الدمار الشامل بكل أشكالها وأنواعها والتخطيط للحروب المدمِّرة التي يشهدها العالم، والجرائم المنظمة التي تنتشر في كل بقاع الأرض، وطرق الاستنساخ التي تضر ولا تنفع. فالعقل البشري إذاً من الممكن أن يوجَّه إلى عمل الخير فيكون خيِّراً، ومن الممكن أن يوجَّه إلى عمل الشر فيكون شِّريراً، وكلاهما مُبدع وخلاَّق بالمعنى العلمي الوضعي التجريبي المجرد للخلق والإبداع. والإنسان قد يكتشف المواهب والقدرات والملكات الذهنية والعقلية والإبداعية التي تكمن في ذاته أو من هو مسؤول عنهم من الأبناء والأهل أو من يتولى أمرهم أو الطلبة إذا كان مدرساً أو المدرسين إذا كان موجِّهاً أو المرؤوسين إذا كان في موقع مسؤولية إدارية أو فنية أو مهنية أو حرفية، فيعمل على استغلالها وتنميتها. فكلما اكتشفها مبكراً كلما استغل عامل الزمن وتمكن من استغلال تلك الطاقات الكامنة واستثمارها بشكل أفضل. وإذا ما استخدمنا معادلة خصم القيم المكتسبة في هذه الحالة استطعنا أن ندرك أهمية الاكتشاف المبكر للطاقات الذهنية والإبداعية. وقد لا يتمكن الإنسان من اكتشاف تلك الطاقات فتبقى مكبوتةً وطاقات معطلة غير مستغلة (أي موارد اقتصادية معطلة). ويمكن تقسيم البشر فيما يخص هذا الأمر إلى أربع فئات رئيسة هي الآتي:
1- إنسان يجهل المواهب والقدرات والطاقات الذهنية والإبداعية الكامنة في ذاته أو في مَن هو مسؤول عنهم، وفي ذات الوقت يجهل أنه يجهل فلا يعيرها اهتماماً إطلاقاَ. وفي الحقيقة فإن هذا الإنسان يُعتبر غافلا وجاهلا يحتاج إلى من يأخذ بيده ويُنبهه ويُعلِّمه ويُوجِّهه، ويُبين له ما معنى الطاقات الذهنية والإبداعية، وما هي أهميتها وكيف يمكن اكتشافها وتنميتها واستغلالها. فإذا ما تم ذلك فإنه قد يتمكن من الاستفادة من تلك المواهب الإبداعية والطاقات الذهنية الكامنة واستغلالها.
2- إنسان يجهل المواهب والقدرات والطاقات الذهنية والإبداعية الكامنة في ذاته أو في مَن هو مسؤول عنهم، وفي ذات الوقت هو يعلم بأنه يجهل ذلك، وهذا إنسان يحتاج إلى من يُعلِّمه معنى المواهب الذهنية والقدرات الإبداعية وطري