فجأة اتجهت كافة الأنظار إلى ضعف وتراجع قيمة الدولار في البورصة العالمية. فخلال الأيام الماضية، تراجعت العملة الأميركية بشكل ملحوظ أمام اليورو الأوروبي والين الياباني، وغيرهما من العملات الدولية الأخرى. أما الصين فقد حافظت على قيمة عملتها مطابقة للدولار، خلال عقد كامل، وقد شكلت استثناءً ملحوظا في الاتجاه العام لانخفاض العملة الأميركية. غير أن هذا الانخفاض ليس مفاجئاً، لكونه نتيجة طبيعية لعدم توازن الاقتصاد العالمي من جهة، وفجوة العجز الذي تعانيه الولايات المتحدة في أرصدة حساباتها الجارية –ونعني بذلك الفرق بين التجارة الخارجية والاستثمار داخل الولايات المتحدة، قياسا للاستثمار الخارجي- من جهة أخرى. ولهذا فإن انخفاض قيمة العملة الأميركية، ليس سوى مظهر واحد فحسب، من مظاهر عدم توازن الاقتصاد العالمي. وقد بلغ هذا العجز معدلا يقدر بنحو 665 مليار دولار سنوياً، أو حوالي 6.5 في المئة، من الناتج القومي الإجمالي خلال الربع الثاني من العام الجاري 2004.
وعلى الرغم من أن انخفاض قيمة الدولار، لا يمثل البلسم الشافي لكافة أدواء الاقتصاد العالمي، إلا أنه يتعين عليه، أن يعبر عن الحاجة الدولية الماسة، لإعادة توازن الاقتصاد العالمي. فمع انخفاض الدولار، يصبح ممكنا تخفيف حدة النزاعات الاقتصادية، بل وحتى السياسية القائمة بين الدول. وبذلك يساعد هذا الانخفاض في حفز المزيد من النمو المستدام في الاقتصاد العالمي. ولكن لا يزال النقاش يتواصل حول الحكمة وراء السماح بانخفاض قيمة الدولار. وفيما يبدو، فقد أعطت إدارة بوش موافقتها الضمنية على هذا الاتجاه. كما جرى أخيرا تعيين "ألان جريسبان"، رئيس الاحتياطيات الفيدرالية النقدية، عضوا في المجلس.
لكن خارج الولايات المتحدة الأميركية، حيث يبدي صناع السياسات، الكثير من عدم الارتياح للعجز الذي تعانيه أميركا، يعرب المسؤولون عن تذمرهم وعدم رضاهم، عن الطريقة التي تعالج بها أميركا هذه المشكلة. وضمن ذلك، أشار الأوروبيون إلى الانخفاض الذي حدث مؤخرا في قيمة الدولار، على اعتبار أنه عمل وحشي. وفي الاتجاه نفسه، هدد اليابانيون بالتدخل مجددا، في أسواق البورصة العالمية. أما الصينيون، فاحتجوا قائلين إن عدم التوازن الذي يعانيه الاقتصاد العالمي، إنما يعود منشؤه إلى أميركا.
وكما يتضح، فإن " طرفاً آخر" هو المسؤول عادة، في لعبة تبادل اللوم هذه. غير أن المسؤولية عن عدم توازن الاقتصاد العالمي، هي مسؤولية مشتركة وتضامنية بحكم طبيعتها. صحيح أن أميركا تتحمل وزراً في ذلك، بسبب استهلاكها المفرط، في حين تعاني بقية دول العالم نقصا في الاستهلاك. وبلغة الأرقام والإحصاءات، فقد ارتفع معدل الطلب على الاستهلاك في الولايات المتحدة بنسبة فعلية، تقدر بنحو 9.3 في المئة خلال الفترة بين 1995-2003، قياسا إلى نسبة 2.2 التي هي متوسط معدل الاستهلاك في الدول الصناعية المتقدمة الأخرى. إلى ذلك، يلاحظ عجز الأميركيين عن ادخار ما يكفي من احتياطات نقدية، في حين ترتفع معدلات الادخار بدرجة عالية في بقية البلدان الأخرى.
وبهذا المعنى، يكون المستهلكون الأميركيون قد استدانوا على حساب المستقبل، وذلك بتبديد مدخراتهم. وبلغة الأرقام نفسها، فإن نسبة الادخار الشخصي هناك، لم تتعد الـ2.0 في المئة فحسب حتى شهر سبتمبر من العام الجاري، منخفضة انخفاضا كبيرا عن نسبة 7.7 في المئة، التي كانت عليها حتى وقت قريب في عام 1992. وأكثر من ذلك، فإن العجز الكبير الذي تعانيه الميزانية الفيدرالية، يعني أن معدل الادخار الحكومي، سالب هو الآخر. وبما أن الولايات المتحدة، تواجه نقصا في المدخرات المحلية، فإن عليها أن تستورد المدخرات الأجنبية، حتى تتمكن من تمويل نموها الاقتصادي. وها هي بالفعل تدير عجزا تجاريا وعجزا مماثلا في الحسابات الجارية، بغية اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية.
وقد انعكس ارتفاع معدل الاستهلاك الأميركي سلبا، على اقتصادات ومدخرات دول وشعوب أخرى، لا سيما في آسيا وأوروبا. وفي الوقت الحالي، تسحب أميركا من هذه الاحتياطيات المالية، بحرية مطلقة، مستهلكة بذلك حوالي 80 في المئة من فائض المدخرات العالمية. ومثلما هجرت أميركا العمل والإنتاج إلى خارج أراضيها، خلال الأعوام الأخيرة الماضية، فهي تفعل الشيء نفسه، بتصديرها لمدخراتها المحلية إلى خارج الحدود. ولا شك في أن هذه سياسة على درجة من الخطورة. وسيأتي اليوم الذي سيطالب فيه المستثمرون الأجانب، بشروط أفضل لتمويل نمو الاستهلاك الأميركي، وعجز المدخرات الأميركية. وسيشهد ذلك اليوم مصرع وانهيار الدولار. ونعنى بذلك الارتفاع المذهل في معدلات الفائدة، وغرق البورصات وأسواق المال العالمية. وفي حال حدوث أزمة كهذه، فإن كساد وتباطؤ نمو الاقتصاد الأميركي، سيكونان نتيجة شبه مؤكدة. وإلى المستنقع نفسه، ستتجه بقية الاقتصادات العالمية الأخرى، الممركزة أميركيا. والسبيل الوحيد لتفادي حدوث هذه الكارثة المأساوية، هو أن تشمر البنوك المركزية العالمية عن سواعد ا