خلال الأسبوع الماضي، كان الرئيس الفرنسي "جاك شيراك"، في زيارة ودية إلى نظيره الليبي العقيد معمر القذافي، لتناول الطعام معه في خيمته الزاهية الفاخرة. في الوقت ذاته، كان الهولندي "جان دي هووب شيفر"، الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي، منهمكاً في الحديث مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، حول شراكة استراتيجية بين بلاده وحلف "الناتو". يلاحظ أن كلا الحدثين، وقع على امتداد الساحل الشمالي من إفريقيا. وتعد زيارة "شيراك" هذه، الأولى من نوعها، من قبل رئيس فرنسي منذ أن نالت ليبيا استقلالها عام 1951. بينما يعد "شيفر"، أول أمين عام لحلف "الناتو"، يزور الجزائر على الإطلاق. بقي أن نقول إن هاتين الزيارتين رفيعتي المستوى، تقف وراءهما، جملة دوافع تجارية، وسياسية وعسكرية.
فمع ارتفاع سعر البرميل الواحد من النفط إلى 50 دولاراً، يلاحظ أن لدى دول منتجة ومصدرة للنفط مثل ليبيا والجزائر، فوائض نقدية مهولة، تخطط لتوظيفها واستثمارها في توسيع صناعات النفط والغاز، وكذلك في الاتصالات البرية والجوية، ومشروعات البنية التحتية السياحية، وأعمال التجديد الحضري، فضلا عن الارتفاع بمستوى معيشة المواطنين.
وفي هذا الصدد، فقد صرح العقيد معمر القذافي، بأنه يخطط لإنفاق نحو 30 مليار دولار على المشروعات التنموية - ولا شك أن هذه خطة طموحة سال لها لعاب الشركات الغربية-. ونسوق مثالا واحداً فحسب على هذا الوعد الاستثماري الليبي، بما أعلنته شركة "الخطوط الجوية الليبية" عن عزمها شراء 20 طائرة، بقيمة تقدر بحوالي 5.1 مليار دولار، وهو العقد الذي تأمل شركة "إيرباص" في الفوز به، على رغم منافسة شركة "بوينج" فيه. ومع توفر الاحتياطيات النفطية الليبية البالغة 47 مليار برميل حالياً، تأمل طرابلس في مضاعفة إنتاجها الحالي، المقدر بنحو 1.7 مليون برميل يومياً، بحلول عام 2010. أما الجزائر، فتقدر احتياطاتها النقدية الآن بحوالي ما يربو على 50 مليار دولار. غير أن هناك الكثير الذي يجب القيام به في ذلك البلد، من أجل خلق المزيد من الوظائف، وانتشال نصف السكان الجزائريين من هوة الفقر التي يقبعون فيها، علاوة على لأم جراح الحرب الأهلية التي دمرت البلاد. وكما نعلم، فحتى وقت قريب، كانت الحرب الطاحنة بين الحكومة الجزائرية، التي يسيطر عليها الجيش من جهة، والمتمردين الإسلاميين من الجهة الأخرى، قد عصفت بالبلاد، في الوقت الذي تحولت فيه ليبيا إلى دولة منبوذة، بسبب دعمها لـ"الإرهاب". غير أن تلك الصفحة قد طويت تماماً الآن.
وها هو نجم إفريقيا الشمالية، يعلو سماء العالم مجدداً، ويحظى باهتمام دولي واسع. فقد تمكن الرئيس الجزائري بوتفليقة، من الانتقال ببلاده إلى فضاء وسماحة المصالحة الوطنية الرحبة. أما ليبيا فقد حظيت بزيارات ذات مستوى رفيع خلال العام أو العامين الماضيين، حيث زارها كل من القادة الدوليين: "توني بلير"، و"خوسيه أزنار"، و"سيلفيو بيرلسكوني"، و"جيرهادر شرويدر"، و"لويس إجناسيو دا سيلفا"، ومؤخرًا، كما ذكرنا، الرئيس الفرنسي "جاك شيراك". والقاسم المشترك بين هذه الزيارات جميعاً، هو الترحيب بعودة ليبيا مجدداً إلى ساحة المجتمع الدولي.
يشار هنا إلى أن عملية "إعادة التأهيل" التي كان قد بدأها العقيد معمر القذافي قبل خمس سنوات، اعتباراً من عام 1999، تتجه الآن لتبلغ ذراها المثيرة للدهشة والاهتمام في آن معاً. وقد أعقبت هذه العملية، اعتراف العقيد الليبي بضلوع عملاء ليبيين، في ثلاث هجمات إرهابية رئيسية هي: حادث سقوط الطائرة الأميركية فوق سماء ضاحية "لوكربي" الأستكتلندية في عام 1988، وتفجير أحد الأندية الليلية في "برلين" عام 1986، وكذلك إسقاط الطائرة دي. سي. 10 التابعة لشركة "يوتا" الفرنسية في عام 1989. وقد تكفلت ليبيا بتعويض أسر المئات من ضحايا هذه الحوادث الثلاثة. كما أعلن القذافي، موافقته على وقف أية مساع ليبية سابقة، استهدفت تطوير بنية تحتية لإنتاج أسلحة الدمار الشامل. وقد أشيد كثيراً بهذه الخطوة في كل من واشنطن والعواصم الأوروبية، باعتبارها نصراً كبيراً، في الصراع من أجل الحد من انتشار الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية.
بيد أن هناك سبباً آخر، وراء تنامي الاهتمام الغربي بدول شمالي إفريقيا. ذلك أن المخططين والاستراتيجيين، في كل من واشنطن وأوروبا، قد بدؤوا يدركون أهمية وضرورة التعاون والحوار مع بلدان شمالي إفريقيا والشرق الأوسط بوجه عام، إن كان للغرب أن يفرض أي قدر من السيطرة على فرص تغذية المنظمات "الإرهابية" المتطرفة، بما تحتاجه من جنود ومقاتلين في صفوفها. وبعبارة أخرى، فقد أدرك الغرب أنه لا مناص من إقامة علاقات التعاون الوثيق مع كافة الدول الواقعة في سواحل البحر الأبيض المتوسط، وبناء مناخ من الثقة الراسخة المتبادلة معها، إن كان في الأفق، أمل في الفوز بـ"الحرب على الإرهاب".
ومن جانبهم يزمع الأوروبيون ضخ أموال ودماء جديدة، في شريان ما يسمى بـ"عملية برشلونة" التي كانت قد دشنت في عام 19