يعاني النشاط التركي في ما خص أوروبا ومخاطبتها من مشكلة عميقة تضرب جذورها في ما يمكن تسميته المفهوم السلطاني للعمل السياسي. فقد بات معروفاً جيداً أن العقدة الأساسية أمام الانخراط في الاتحاد الأوروبي ليست كامنة في السياسيين الأوروبيين، بل هي، بالأحرى، صادرة عن بيئات شعبية وجماهيرية في القارة. ذاك أن السياسيين لا ينقصهم الإدراك لأهمية ضم تركيا والانفتاح على العالم الإسلامي، فيما البيئات المذكورة، الأكثر قومية وتديناً وعزلة عن العالم الخارجي وتأثراً بصحافة التابلويد ونشاطها التحريضي، هي التي تتحفظ على ذاك الضم، بل تعاديه. مع هذا، لا يزال التوجه الطاغي على عمل الحكومة التركية يتمثل في التوجه إلى السياسيين وحدهم والعزوف عن مخاطبة الرأي العام بسائر جماعاته. وربما ظن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية عبدالله جول أن اللقاء مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك أو محاورة المستشار الألماني غيرهارد شرودر كفيلان بتذليل الإشكالات التي تقف في وجه انضمام بلادهما إلى الاتحاد. وهذا، في واقع الأمر، امتداد لتقليد شرقي، أو سلطاني، عريق مفاده أن السياسة حكر على السياسيين دون سواهم. ذاك أن البلدان التي افتقرت تقليدياً إلى الحياة السياسية والمبادرات التحتية غالباً ما تسودها ثقافة تحتقر مخاطبة الرأي العام ومحاولة تغييره، فيما الأمر ليس على هذا النحو في أوروبا، حيث ينعكس موقف القواعد الشعبية، حتى لو لم تصوّت أو تُستفتَ، على قرار السياسي ومواقفه.
والمؤلم، في هذا المجال، أن تركيا بنهجها هذا تفوّت فرصة نموذجية على نفسها مفادها تعبئة الطاقات المليونية التي تملكها من خلال مهاجريها إلى أوروبا، لا سيما ألمانيا، بعمالهم وطلابهم وتجارهم ومثقفيهم وفنانيهم. ففي وسع هؤلاء، إذا ما أحسن توجيه تحركاتهم وتأطير نشاطاتهم، التحول إلى خلية نحل تؤثر في قطاعات شعبية ومهنية عريضة، فيما يفضي عملهم في آخر المطاف إلى إشاعة صورة عن بلدهم تخالف الصورة السائدة اليوم في أوروبا.
يكفي القول، مثلاً، إن في وسع برامج تعرضها النوادي الثقافية في الجامعات عن هندسة العمارة والجوامع كما أسسها المهندس العبقري سنان، أو عن شعر ناظم حكمت مثلاً، إحداث تحولات في الصورة والنظرة لا يرقى إليها الشك.
وعلى نطاق أقل ثقافية ونخبوية، وأشد اتصالاً بالهموم الشعبية العريضة للأوروبيين، يمكن تسويق تركيا في أكثر من مجال. فمن جهة، يصعب غضّ النظر عن الحقيقة الديموغرافية- العمرية التي تفيد أن الاقتصادات الأوروبية مهددة على نحو متعاظم بتزايد نسبة السكان المسنين إلى نسبة الشبان الذين هم في سن العمل والإنتاج. وحقيقة كهذه تعني أن حصة متزايدة من اجمالي العمل الأوروبي ستذهب لإعالة كبار السنّ، فيما ستتقلص هذه الحصة نفسها تبعاً لتقلص نسبة المنتجين. وكارثة من هذا النوع هي مما لا علاج له خارج الاستعانة بالعنصر الشاب والباحث عن عمل كما تجسده الهجرة التركية.
بيد أن المسألة لا تقف هنا، ذاك أن هذه الهجرة يسعها قطع الطريق على هجرات أخرى من بلدان في العالمين العربي والإسلامي أكثر انطواءً على العنصر الأصولي والمتطرف الذي يهدد الأمن الأوروبي. فقد بات واضحاً، على رغم استثناءات عابرة وغير أساسية، أن الأصولية التركية هي الأقل اعتماداً للعنف على مثيلاتها، كما أنها أكثرها اعتماداً للسياسة والحوار وأشدها قبولاً بالآخر والمختلف. وما تجربة التعايش الحاصل بين أصوليين -حزب العدالة والتنمية- وبين علمانيين - الجيش- سوى برهان صريح على ذلك.
وقصارى القول إن مسائل كالاقتصاد والأمن التي تهم جميع الأوروبيين قابلة للمخاطبة والتأثير فيها على نحو إيجابي. والشيء نفسه يمكن قوله في ما خص الدين، وهو الأمر الذي تبدي القطاعات الأقل تقدماً في أوروبا حساسية خاصة حياله. فمجرد أن يُقبِل الإسلام التركي على التعايش مع العلمنة ورموزها وتقاليدها، فهذا بذاته حجة تدحض كل الترهات الإطلاقية في شأن "حروب الحضارات" والقطيعة النهائية المزعومة بين الإسلام والغرب. وتحت بند كهذا تندرج عناوين عدة لا يمكن إلا أن تعني الكثيرين في أوروبا: فبالمقارنة، مثلاً، بين طرق الاحتكاك المعروفة بين الشرق والغرب، وآخرها الطريق العراقية الدامية، وبين الطريق التي يقترحها الدخول التركي إلى أوروبا، هناك فارق ضخم لجهة السلاسة والفعالية في آن معاً. كذلك يستطيع ضم تركيا إلى الاتحاد المساهمة في تذليل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي بما يسببه من تحديات فعلية مطروحة على الأمن الأوروبي.
لكن العنوان الذي ربما فاق سائر العناوين أهمية يتجسد في أن أوْرَبة تركيا الحالية هي أقصر الطرق إلى مصالحة الحداثة مع المجتمعات غير الأوروبية. فإذا راجعنا تجارب التحديث ما بين هند أنديرا غاندي وإيران الشاه وتونس بورقيبة، ناهيك عن تركيا نفسها في عهد أتاتورك، واجهتنا حقيقة افتقار التحديث إلى قاعدة شعبية يرتكز عليها. ذاك أن الجماهير العريضة كانت تجد فيه دائماً امتداداً لمشروع غربي وتغريبي، فتلجأ إلى مع