تناولنا في مقالات سابقة آراء بعض المفكرين الصهاينة مثل فان كريفليد، وبعض الزعامات الصهيونية مثل شارون والحاخام عوبديا يوسف. وحتى تكتمل الصورة قد يكون من المفيد أن نعرض لأفكار وآراء عاموس كينان وهو من أبرز الصحافيين والكتاب والمفكرين الإسرائيليين، وقد عُرف بمواقفه الجريئة منذ الخمسينيات في التصدي للحكم العسكري الذي فرض على العرب في إسرائيل حتى عام 1966، ثم في معارضته الشديدة لاستمرار الاحتلال عام 1967، وكذلك في نضاله ضد التمييز العنصري. ولكنه مع هذا يجد نفسه في موقف غريب للغاية، فرغم رفضه للظلم إلا أن كونه إسرائيلياً يجعله (محتلاً) شاء أم أبى، فهو ينتمي إلى دولة أسست على أرض الآخرين الذين رفضوا الاستسلام للأمر الواقع، وقرروا المقاومة والكفاح من أجل استعادة أرضهم وحقوقهم. ويتضح هذا في الحوار الذي نشر في مجلة "قضايا إسرائيلية" التي يصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" في عددها الصادر في خريف 2002.
وقد أجرى الحوار بلال ظاهر الذي سأله: كتبت مؤخراً مقالاً قلت فيه: إن مروان البرغوثي هو مقاتل من أجل الحرية، ولم ترغب الصحف الإسرائيلية في نشره، هل أصبح الإسرائيليون لا يحتملون فكرة تختلف مع الإجماع القومي، حتى ولو كانت من كاتب مثلك؟ فأجاب: في فترة الانتداب البريطاني كانت هناك مجموعة من الأساتذة الجامعيين اليهود أطلقت على نفسها اسم (بريت شالوم) "تحالف السلام"، وقد تعامل المستوطنون الصهاينة مع هذه المجموعة بازدراء، لمجرد أن أعضاءها دعوا إلى إقامة سلام مع الفلسطينيين. على الرغم من أن أعضاءها كانوا من أبرز المثقفين. حين سئلت عن الفرق بين الإرهابي والمقاتل من أجل الحرية، قلت: إن المقاتل من أجل الحرية هو ابن شعبك الذي يقاتل من أجل حرية شعبك، أما الإرهابي فهو شخص من شعب آخر يقاتل من أجل حرية شعب آخر.
ثم سأله محاوره سؤالا ًمحرجاً للغاية عن ترحيل العرب من البلاد، فكانت إجابته مباشرة وغير مراوغة: كان العرب بدون قيادة، وهرب سكان غالبية القرى، وكان هناك من بقوا في قراهم، ولكن الجيش الإسرائيلي نفذ الترحيل بحق العرب، مثل ترحيل السكان من مجدل، قرب عسقلان. كذلك فإن المجزرة الحقيقية لم تقع في دير ياسين، بل في الدوايمة، قب الخليل. فهناك قتل الجيش الإسرائيلي كل ما هو حي، من رجال ونساء وأطفال وكلاب وقطط ودجاج وماعز، لم يُبق شيئاً. لقد كانت هذه مجزرة بكل معنى الكلمة. وبالمناسبة رأيت بأم عيني الوفد الذي خرج من الرملة رافعاً الراية البيضاء، وقال لهم يغئال ألون أن يذهبوا إلى الجحيم.
وبعد هذه الكلمات الصادقة تبدأ الرؤية في الاهتزاز ويغوص عاموس كينان في الغيبيات الصهيونية. فهو على سبيل المثال يرى أن العرب قد اخطأوا حينما رفضوا قرار التقسيم، وهو القرار الذي منح المستوطنين الصهاينة أكثر من نصف أرض فلسطين وأسبغ على وجودهم شرعية. بل إننا نجد أنه يساوي بين الوجود الفلسطيني في فلسطين والوجود الصهيوني، ولتبرير هذا يقدم رؤية صهيونية لتاريخ فلسطين، إذ يذهب إلى أن العرب احتلوا فلسطين وأن سكان القرى في فلسطين ظلوا يهوداً لبعض الوقت، ثم اعتنقوا الإسلام. لقد خرج العرب من الجزيرة العربية واحتلوا الشرق الأوسط، أرض إسرائيل وسوريا والعراق وشرقي الأردن ومصر، وعندما احتلوا أرض إسرائيل، تم إرغام اليهود على اعتناق الدين الإسلامي، أو أن اليهود اعتنقوا الإسلام بإرادتهم، وذلك على مر أجيال عديدة. إن الفلسطينيين ليسوا مجرد أبناء عمومتنا، وإنما هم في الواقع إخوتنا، وقد أثبتت بحوث في مجال الجينات تطابق جينات اليهود وجينات العرب.
وعاموس كينان يعتبر نفسه يسارياً ولكنه يرى أن معسكر اليسار في إسرائيل قد تهاوى: الذي حدث أن حزب "مباي" قد انهار ولم يعد قائماً تقريباً. لقد كان "مباي" حزباً كبيراً ومُحي عن الوجود. وحزب "مباي" موجود اليوم ضمن حركة "ميريتس"، وهناك يوجد على الأقل روح القتال، فهم ضد النظام بصورة حقيقية. لكن هذا هو الحال لأننا الآن نعيش في فترة حكم يميني قوي وفظ، ولا نرى النهاية لهذا الوضع. ولا أمل لليسار أبداً في الانتخابات. كما أن استطلاعات الرأي تظهر تأييد أغلبية الشعب لشارون. وأنا أعتقد أن شارون وكذلك عرفات لا يريدان السلام، عرفات يريد كل فلسطين وشارون يريد كل أرض إسرائيل.
وقد انهار اليسار الإسرائيلي بسبب حرب الأيام الستة. هذه المصيبة التي حلّت بنا، كان يتوجب علينا أن ننسحب فوراً من الأراضي المحتلة.
وماذا عن تعريفه لنفسه: يهودي أم صهيوني أم إسرائيلي؟ إنني أعرِّف نفسي كإسرائيلي، وهذا ما يهمني. أنا ولدت هنا، ولكن والدي صهيوني فهو جاء إلى هنا. من يأتي إلى البلاد فهو صهيوني. والصهيونية ما زالت موجودة ولكن بصورة مشوهة، بسبب المستوطنات ورفض السلام. كذلك فإنني أعرف أن هناك هجرة كبيرة جداً من البلاد.
وهنا طرح عليه محاوره أهم سؤال بخصوص قضية اللاجئين وقضية القدس والمستوطنات؟
قد يستغرق حل الصراع 50 سنة أو حتى مئة سنة أخرى. فالصراع بين فرنسا وألمانيا