عندما حذر الأمين العام للأمم المتحدة "كوفي أنان" كلاً من الرئيس الأميركي جورج بوش وتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا وإياد علاوي رئيس الحكومة العراقية المؤقتة من خطورة الهجوم العسكري على الفلوجة، كان يدرك تماماً الأبعاد التي ستصل إليها الحالة الأمنية في العراق بعد الهجوم، وكانت رسالته التحذيرية إلى كل الأطراف تهدف إلى:
1- إيقاف حالة التدهور الأمني المتزايد. 2- دعم الحوار بين الأطراف المختلفة لأنه أفضل وسيلة لعلاج حالة التدهور الأمني في العراق. 3- التنبيه إلى خطورة استخدام القوة في مثل هذه الحالات الملتهبة أمنياً لأنها تعمل على زيادة حدة التدهور.
لكن يبدو أن نظرية "الهيجان الاستعماري" وغرور القوة والنوايا المبيتة هي التي تحرك سياسة أميركا في العراق، وعملية "الشبح الغاضب" التي اجتاحت بكل قوة "مدينة المساجد" الفلوجة وحولتها إلى مدينة أشباح، كانت جزءاً من هذه الاستراتيجية. وقد اعترف قائد المارينز "ناتونسكي" قائلاً:"لقد حصلنا على ضوء أخضر من جورج بوش ووزير الدفاع رونالد رامسفيلد أن نقوم بالعمل حتى النهاية بأكبر قدر من النيران، وفي أسرع وقت ممكن بعيداً عن أنظار العالم".
وهو يقصد بعيداً عن عيون الإعلام حتى تكتمل المجزرة، وقد شاهد العالم عبر شاشات التلفزيون كيف أصبحت المدينة بعد تنفيذ هذه الخطة، وكأن المدينة أصيبت بزلزال شديد الحدة. حالة الدمار والتخريب والهدم في كل مكان، المساجد هدمت على رؤوس المصلين، المنازل هدمت على رؤوس أهلها، الصواريخ والمدافع والقنابل والدبابات والطائرات طالت كل شيء في المدينة، واختلط صوت الآذان وصرخات الله أكبر بأصوات الانفجارات والقنابل والطائرات، وتحولت المدينة إلى مقبرة جماعية. وقد نجح أحد المراسلين الأجانب الذي كان داخل المدينة في وصف هذا المشهد بدقة عندما قال:"كنت أجري مثل المجنون والجثث تغطي الأرصفة والجرحى يتوسلون لإنقاذهم دون جدوى، رائحة الموت في كل مكان، رأيت الكلاب والقطط تنهش الجثث المتناثرة في الشارع، كل البيوت مصابة بقذائف أو مدمرة، كنت أسمع بكاء الأطفال والنساء والجرحى طوال الليل، شعرت بأنني في يوم القيامة". والكل شاهد الصورة التي التقطها أحد الإعلاميين الأجانب المرافقين للحملة العسكرية الأميركية على الفلوجة، والتي ظهر فيها جندي المارينز الأميركي وهو يطلق النار من مسافة قريبة وبدمٍ بارد على الجريح العراقي في المسجد وسط مجموعة من المصابين. والمثير في الأمر أن أصابع الصهيونية لم تكن بعيدة عن هذا المشهد، حيث اعترف الحاخام اليهودي "أرفيننج ألسون" الذي كان يرافق قوات الاحتلال الأميركية في الفلوجة لصحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية الصادرة يوم الأحد 14/11/2004 بأن هناك العديد من اليهود شاركوا في المعارك الدائرة في الفلوجة، وأن عدد الجنود اليهود في العراق يبلغ بين 800 إلى 1000 جندي وضابط، وأن هناك 37 حاخاماً يهودياً موزعين على قوات الاحتياط والبحرية والجوية، وأن عدداً كبيراً من الجنود اليهود يخفي هويته الدينية. ونحن نعرف أن الدوافع الحقيقية للحرب على العراق كان خلفها مجموعة من اليهود المتخلفين في الإدارة الأميركية الحالية.
هذا المشهد الذي حدث في الفلوجة هو صورة مصغرة للمشهد الكبير الذي حدث منذ دخول قوات الاحتلال أرض العراق، تحت شعار التحرير والديمقراطية، حيث داست أميركا على كل هذه القيم وعلى كل شيء يتصل باتفاقية جنيف، ووصل عدد الذين ماتوا من المدنيين العراقيين من الأبرياء فقط إلى 100 ألف قتيل غالبيتهم من النساء والأطفال، وهذا باعتراف خبراء أميركيين في مجال الصحة في مقال نشرته مجلة "ذي لانست" الطبية. حيث أظهرت الدراسة أن وفاة الإنسان في العراق زادت مرتين ونصف المرة بعد الغزو وزادت بمعدل مرة ونصف المرة بعد اجتياح الفلوجة.
نحن إذاً أمام حالة قد تكون نموذجاً للكثير من المناطق في المدن العربية والعالم، حالة جديدة من سياسة التوحش والسيطرة والاحتلال وفرض الأمر الواقع بالقوة، حالة استعمارية تريد أن تدير حالة العنف في العراق حتى يصل إلى مستوى "الفتنة الطائفية"، مثلما تدير الآن حالة التوتر في العالم والتي زادت من حالة "الإرهاب" في العالم باعتراف غالبية المحللين السياسيين والأمين العام للأمم المتحدة والرئيس الفرنسي جاك شيراك. وأخطر ما في هذه السياسة هو بعض الأصوات النكرة من الكتاب والمفكرين والمثقفين العرب المؤيدين لهذه الاستراتيجية النازية في المنطقة.