عندما وقع إطلاق النار من دبابة إسرائيلية على ثلاثة من الجنود المصريين وأدى إلى استشهادهم في رفح، سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون إلى الاتصال بالرئيس مبارك معبراً عن أسفه للحادث. نشرت الصحف الرسمية القصة مازجة بين تفاصيل الحدث وبين الاعتذار الرسمي الإسرائيلي. وبدا من ردود الفعل العامة أن المصريين رغم استيائهم لوقوع الشهداء فإنهم كظموا غضبهم في انتظار نتائج التحقيقات التي وعد بها شارون لمعرفة الملابسات.
وقد نشر محتوى بيان "ياعلون" في الصحافة الرسمية مما أعطى انطباعاً بأن الإسرائيليين مهتمون بالفعل بالاعتذار واكتشاف أسباب الخطأ لمنع تكراره، وأن الدولة المصرية في انتظار نتائج التحقيق في حالة ضبط أعصاب. وجاء هذا التطور الساخن على المستويين الحكومي والبرلماني في أعقاب صدور تصريح من رئيس لجنة الدفاع في الكنيست علق فيه على الحادث وبرر فيه وقوع عملية إطلاق النار على الجنود المصريين وذلك بتحميل مصر المسؤولية غير المباشرة بزعم إهمالها في حماية المنطقة الأمنية على الحدود. إذاً فقد جاء انفجار الغضبة المصرية عندما أدرك المستوى الحكومي المصري أن هناك في إسرائيل من يعتقد أن الجريمة التي وقعت لها ما يبرر وقوعها.
إن الدلالة الواضحة هنا أن الحكومة والرأي العام معاً قد التزما ضبط النفس إلى أن وصلتهما كلمات تشير إلى احتمال تعمد إطلاق النار على الجنود المصريين. من هنا جاء تصريح د. مصطفى الفقي رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب ليصف التصريح البرلماني الإسرائيلي بأنه احتوى أكاذيب واضحة وأنه وأعضاء اللجنة يعتبرون الحادث عملاً متعمداً وبالتالي لا يكفي معه أي اعتذار.
الفارق بين العمل الخاطئ وبين تعمد الخطأ هو الذي حدد رد الفعل المصري الهادئ في الأيام الأولى، وهو الذي أطلق الغضب بعد ذلك. وفي إطار إيحاء التعمد الإسرائيلي انتقل الغضب من المستوى الحكومي والبرلماني إلى نطاق أوسع. فقد طالب عدد متزايد من أعضاء مجلس الشعب بضرورة تخصيص جلسة عامة لكافة أعضاء المجلس لمناقشة الموضوع، وبالفعل عقدت الجلسة وتوالت فيها كلمات الغضب والمناداة بمستويات متعددة من رد الفعل وصل سقفها الأعلى إلى المطالبة بمراجعة اتفاقية "كامب ديفيد" ورفع القضية إلى مجلس الأمن، ووقف كافة التعاملات السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، وفي سقفها الأوسط إلى المطالبة بضرورة نشر دبابات مصرية قرب خط الحدود مقابل الدبابات الإسرائيلية القريبة من نفس الخط على الجانب الآخر، ووصلت في سقفها الأدنى إلى المطالبة بتوجيه إنذار إلى إسرائيل لإبلاغها بأن الشعوب ليست جثثاً هامدة.
بالتوازي مع انعقاد هذه الجلسة العامة في مجلس الشعب انطلقت حشود طلاب الجامعات في تظاهرات غاضبة تنادي بالثأر لأرواح الشهداء، واشتعلت صفحات الصحف بالكلمات الملتهبة والتحليلات التي تقدم سجلاً لتاريخ الانتهاكات الإسرائيلية للمعاهدة من ناحية وتذكر بعمليات قتل الأسرى المصريين في الحروب المختلفة من ناحية ثانية.
إن تأمل السياق الذي وقع فيه الحادث يشير من وجهة نظري إلى رسالة إسرائيلية لم يلتفت إليها كتاب الصحف المصرية، ذلك أن الحادث يأتي في أعقاب الجنازة الرسمية الدولية التي أقامتها القاهرة لتشييع عرفات. لقد جاء حجم الحدث، بوضع جثمان عرفات على عربة مدفع مصرية محاطاً بفصائل حرس الشرف العسكرية المصرية وبتقدم الرئيس المصري لصفوف المشيعين محاطاً بضيوفه من الملوك والرؤساء العرب وممثلي الدول الكبرى والصغرى من كافة القارات، صادماً للمخطط الإسرائيلي حول وصم عرفات بتهمة "الإرهابي" وتشويه قضية فلسطين عن طريق تحويل موته إلى حدث هامشي ورحيل معزول عن اهتمام العالم.
في تقديري أن الجنازة الحدث التي تابعتها كاميرات العالم قد نسفت المخطط الإسرائيلي وأعادت التفاف العالم حول رمز القضية. وهنا كان يجب أن تعاقب مصر وأن توجه إليها رسالة بألا تدس أنفها لإحياء كامل أبعاد القضية المراد تحجيمها وعزلها. ولعل الغضبة المصرية تمثل بشكل غير مدروس الرد على الرسالة الإسرائيلية.