إذا كانت الحرب اللعينة التي خاضها النظام السوداني بالأمس ضد "المتمردين الجنوبيين" هي في عُرف النظام جهاد كما سماها، فإن السعي - والسعي الجاد- في سبيل السلام العادل والمستدام الذي يحقق للسودان الاستقرار ويجنبه ويلات التمزق هو حقاً الجهاد الأكبر. الجهاد الأكبر الذي أولى درجاته مجاهدة النفس، ومغالبة الهوى الذاتي والحزبي، والارتقاء بها فوق مطامع المكاسب الحزبية الضيقة والنظر بالعدل والمسؤولية والمساواة الحقيقية في أحوال "كل الرعية" التي دفعت ثمناً فادحاً لا يتصوره إلا من عاشه في سبيل حرب خاسرة كان من الواجب أن يدرك الذين أشعلوا أوارها أنها لن تحل مشكلاً ولن تحقق نصراً لأي من أطرافها، وأن الخاسر الأكبر فيها هو السودان.
إن الجهاد في سبيل السلام سيكون معركة شاقة - تهون دونها كل المعارك الحربية- لأن أدواتها هي العقل المتفتح، والوعي المستنير والصدق ليس مع المجتمع الدولي والاتحاد الأفريقي، وإنما أولاً وقبل كل شيء الصدق مع النفس، والصدق مع الشعب السوداني المتضرر الأول من الحرب والذي يرجو أن يكون المستفيد الأول من السلام.
لقد وقعت الحكومة والحركة الشعبية أمام المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن الذي انتقل في بادرة نادرة الحدوث إلى نيروبي، اتفاقاً صار معلوماً أنه وبموجبه التزام الطرفين الوصول إلى اتفاق سلام نهائي قبل اليوم الأخير من هذا العام الميلادي. وبرغم بعض أجواء التفاؤل التي سادت في نيروبي فإن العقلاء من الناس يدركون أن توقيع الاتفاقات - وهو أمر مطلوب- شيء، وأن تنفيذ الاتفاقات بنصوصها وبالروح الكامنة خلف النصوص أمر آخر أشد صعوبة وأكثر خطراً من لحظة توقيع الاتفاق. هو أمر يحتاج أولاً قناعة كل أطرافه بأنه لم يعد هنالك أمامها وأمام السودان من سبيل سوى الخروج من عالم الحرب والاقتتال والبطش المتبادل ببسطاء الناس وضعفائهم، والانتقال إلى عالم السلام والأمن والحرية والديمقراطية لكل السودانيين.
صحيح أن الحرب اللعينة هي أول أزمات السودان وأنه منها وبسببها تعددت الأزمات الأخرى التي تمسك اليوم بخناق السودان. لكن وضع نهاية للحرب في الجنوب لا يعني نهاية أزمات السودان الظاهرة الآن، والتي هي في طريق البروز إلى السطح. ذلك أمر يتعين على السودانيين أن يدركوه وأن يتعاملوا معه بالجدية والصدق حتى لا يقع السودان في نفس الخطأ الجسيم الذي وقع فيه يوم أن تفجر تمرد "توريت"، وتعاملنا معه على اعتبار أنه مسألة عسكرية ستحسمها "قوانين الضبط والربط" في القوات السودانية المسلحة. ولقد كان ثمن هذا الخطأ الجسيم ما آل إليه أمرنا اليوم.
إن المجتمع الدولي يبسط يديه اليوم للسودان لمعاونته في الخروج من دوامة الحرب وبناء السلام، لكن هذا المجتمع الدولي ذاته يدرك أن الفاعل الأول في تحقيق السلام المنشود هو شعب السودان بأجمعه. والسلطة القابضة اليوم على أزمة الحكم عليها أن تدرك أن واجبها الأول هو أن تستكمل مصالحتها مع الحركة الشعبية ومع القوى الشعبية السودانية الأخرى لأنه بدون المصالحة الوطنية الشاملة للجميع والمؤسسة على المساواة في الحقوق والواجبات لن يتحقق للسودان السلام الشامل والعادل، وليس في هذا وهم أو تخيل، فتجربة السودانيين الطويلة منذ فجر الاستقلال قد أكدت أنه بدون التراضي المؤسس على الحقائق الموضوعية والاعتراف الصادق المتبادل بحقوق ومصالح كل الأطراف التي تشكل السودان، لن يكون هنالك سلام مستدام، ولا استقرار مطلوب.
وإنه لحق أن الجهاد في سبيل السلام هو الجهاد الحقيقي الذي يتقبله الله سبحانه وتعالى ويؤمنه الشعب السوداني.