عندما تستعين جهة رسمية أو غير رسمية في بعض الأحيان ببيوت الخبرة الأجنبية غير العربية فإن لتلك الاستعانة دلالات. فإن كانت الاستعانة في حقول عملية تكنولوجية أو صناعية لم تتوفر لها محلياً الخبرة الكافية أو المعرفة المطلوبة، فإن ذلك دليل قرار صائب لا يمكن الاعتراض عليه. أما إذا كانت الاستعانة في حقول اجتماعية - اقتصادية أو تنظيمية فإنها تشير إلى إحدى دلالتين. الأولى أن تكون تلك الجهة مبهورة بكل ما هو أجنبي بحيث ينطبق على تصرُّفها ما يردده الوسط الشعبي في مصر من وجود "عقدة الخواجة" أو الافتتان بـ"بتاع برَّه ". والثانية أن تخاف تلك الجهة من أن تقوم بيوت الخبرة الوطنية بنبش خبايا وأسرار لا تريد لها تلك الجبهة أن تُعرف فتفضِّل العمى الأجنبي على البصيرة الوطنية.
دعنا نواجه الظاهرة بصورة أكثر دقة. ففي الوطن العربي بصورة عامة، وفي بلدان الخليج العربية بصورة خاصة، تصرف الملايين على بيوت استشارة أجنبية من أجل تقديم دراسات وحلول لقضايا مثل تنشيط اجتذاب الاستثمارات الأجنبية أو دراسة ظاهرة الفقر أو اقتراح حلول للقضايا التربوية المستعصية أو مواجهة تفشّي البطالة بين الشباب أو تنشيط السياحة إلخ. لكن الجهات التي تطلب تلك الخبرة تنسى الجوانب التالية: أولا: أن لتلك الموضوعات الاقتصادية- الاجتماعية خلفية ومكونات تاريخية وثقافية تكوّّّّّّّّّّّّّن جزءاً مهماً من تلك الموضوعات. فبعض القضايا مرتبطة بتاريخ الاستعمار في هذه المنطقة كما هو الحال لبعض العلل الاقتصادية أو التربوية. وبعض القضايا مرتبطة بقيم تاريخية مجتمعية كما هو الحال بالنسبة لاحتقار العمل اليدوي أو تفضيل العمل الحكومي السهل أو اشتغال المرأة في بعض المهن والأعمــــال.
ثانيا: هناك مشكلة الأجندات (جداول الأعمال) الخفية الكامنة وراء بعض المشاكل كالمحاباة العائلية أو القبلية أو كالتفرقة الطائفية أو العرقية أو الحزبية أو كالرشوة وفساد الذمم المتفشية في بعض الأوساط والمرتبطة بوضع سياسيٍّّّّّّّّّّّّّّّ غير ديمقراطي لا يسمح بالمساءلة أو الكشف.
ثالثا: هناك المعلومات غير الرسمية التي تحرص بعض الجهات الرسمية على إخفائها من جداول بياناتها ومن نشرات إعلامها والتي تتوافر عند بعض المؤسسات المدنية أو جماعات المعارضة أو عند بعض الأفراد. وهي معلومات قد تلقي الضوء على هذا الجانب أو ذاك من الموضوع المطروح للدراسة بحيث تؤثّر كلياً على النتائج والتوصيات. مثلاً، هل تتحدث المعلومات الرسمية قط عن مُستعبدي العمالة الأجنبية السائبة الرخيصة المنتشرة في الخليج؟ أو حصول متنفِّذين على عمولات تجعل المشاريع الاقتصادية غير كفؤة وغير قادرة على المنافسة؟.
رابعا: إن الفترة التي تقضيها الجهة الأجنبية في دراسة الموضوعات هي عادة محدودة جداً تقدّر بأسابيع أو شهور. والذين يقومون بالدراسات هم عادة من الذين لا يعرفون اللغة العربية وبالتالي لا يستطيعون قراءة التاريخ أو الإلمام بالثقافة أو الاتصال بالأوساط المدنية. وبالتالي فإن الجهة الأجنبية تتعامل مع معلومات صمّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّاء، متلاعب بها وليست لها جذور. ولأنّّّها بالكاد تستعين ببعض العناصر الوطنية في قيامها بالمهمة الموكلة إليها فإن الخبرة والمعرفة التي تملكها تبقى حبيسة عندها ولا تنتقل إلى المؤسسات المحلية من أجل أن تستطيع القيام بمهام مماثلة مستقبلاً. وهكذا ندخل في حلقة مفرغة جهنمية تؤدي إلى الاعتماد الدائم على الخبرة الأجنبية.
دعونا نكون صريحين إلى أبعد الحدود. إذا كانت القضية المحورية في هذا التكالب غير المبرّر على بيوت الخبرة الأجنبية تنطلق من الاعتقاد بأن المعرفة والخبرة عند الأجانب هي دائماً أفضل مما هي محلياً وذلك بالرغم من الثغرات الكثيرة التي بينّاها سابقا، فإذن من حقنا أن نطرح سؤالاً محرجاً. ذلك أننا باستطاعتنا أن نحصل في بيوت الخبرة الأجنبية على بشر لهم خلفية علمية وتجارب غنيّة تؤهّلهم لأن يقوموا بتصريف أمور الدول العربية بشكل أفضل بكثير مما يقوم به رجال أعمالها ومديروها ووكلاؤها ووزراؤها ورؤساء وزاراتها... فلماذا لا نستعين بهم أيضاً وننهي كل مشاكل هذه الأمة؟.