لا يضاهي الوجه أي من أعضاء الجسم الأخرى في قدرته على الإعلان - وعلى الملأ- عن الكثير من معلوماتنا الشخصية وبشكل فوري. فبمجرد أن نرى وجه شخص ما - ولو للمرة الأولى- يمكننا بكل سهولة أن نستخلص وأن نستنتج الكثير من البيانات الشخصية عنه. مثل الجنس سواء كان ذكرا أم أنثى، والعمر سواء كان طفلا أم شاباً أم شيخاً هرماً. وأحياناً ما نستطيع من خلال الوجه، أن نحدد العمر بدقة لا تزيد أو تقل إلا ببضع سنوات عن عمر الشخص الفعلي. ويمكننا أيضاً أن نستنتج من الوجه أصل وعرق الشخص، وأحياناً حتى جنسيته وبلد موطنه. وبخلاف المعلومات الأساسية الكثيرة التي يمكن أن نستخلصها من الوجه، يمكننا أيضاً أن نستدل منه على سمات الشخصية وعلى الحالة النفسية المزاجية، وحتى الحالة الصحية أو المرضية. والخلاصة أن الوجه "يافطة" كبيرة جداً، نحملها جميعاً، ويقرؤها بشكل لحظي كل من نلقاهم في حياتنا اليومية. وبلا شك أن أفراد الجنس البشري أصبحوا بارعين إلى حد كبير في قراءة وجوه بقية أفراد جنسهم، وهي ربما كانت المهارة الأساسية الضرورية للتفاعل الاجتماعي الإنساني، الذي مكن الإنسان من الخروج من حياة الصيد والجمع إلى بناء تركيب اجتماعي بالغ التعقيد لا يضاهيه فيه مخلوق آخر. هذه الأهمية الشديدة التي يحتلها الوجه في العلاقات الاجتماعية، وفي تفاعلات الحياة اليومية، تجعل من الإصابات الشديدة والتشوهات التي تصيب الوجه، إحدى أكثر المآسي الطبية التي يمكن أن يرزح إنسان تحت وطأة آلامها النفسية. فالأشخاص الذين شوهت وجوههم من جراء حادث سيارة أو نتيجة حروق شديدة أو من ولدوا من الأساس بعيوب خلقية ووجوه مشوهة، تتحول حياتهم إلى سلسلة طويلة من نظرات الشفقة من قبل الآخرين، وأحياناً حتى مظاهر التقزز والاشمئزاز من البعض.
ولكن بعد مرور نصف قرن على نجاح أول علمية زراعة للكلى، وفي الوقت الذي أصبحت فيه عمليات زراعة القلب والرئتين والكبد إجراء جراحياً روتينياً ينفذ في العديد من المراكز الطبية حول العالم، فلماذا لا تتم زراعة أو نقل الوجه أيضاً؟ الإجابة على هذا السؤال بسيطة جداً، وهي أنه لا يوجد عائق طبي أو علمي، ولا تزيد المشكلة على أنها معضلة أخلاقية؟ هذه الإجابة البسيطة أكدها في بداية هذا الشهر خبر صدر عن المركز الطبي الشهير "كليفلاند كلينيك" (Cleveland Clinic) في الولايات المتحدة، ذكر فيه أطباء جراحة التجميل في المركز أنهم حصلوا على الموافقة للقيام بأول علمية زراعة وجه بشري، لشخص مشوه بشدة من جراء حروق شديدة أو بسبب مرض ما. ورغم أن الأطباء لا يتوفر لهم حالياً مريض يطلب زراعة وجه أو متطوع متبرع بوجهه بعد وفاته، إلا أن تلك الموافقة تعني أنه لا يوجد بالفعل عائق طبي أو علمي، ولذا يتوقف الموضوع فقط على توفر المريض والمتبرع.
والحقيقة أن الأوروبيين وبالتحديد البريطانيين، سبقوا نسبياً الأمريكيين في هذا المجال. ففي عام 2002 أثار الجراح البريطاني "بيتر بتلر" (Peter Butler) في العاصمة البريطانية، عاصفة من النقاش المحتد حول العالم، انقسم فيها الأطباء والمختصون بين مؤيد ومعارض لعمليات زراعة الوجه. الفريق المؤيد يدفع بأنه إذا كان في إمكان الطب أن يخفف الآلام النفسية والاجتماعية لهؤلاء المشوهين، فلم لا؟ وخصوصاً إذا ما كان الإجراء المطلوب في متناول اليد. هذه الحقيقة المرتبطة بإمكانية القيام فعلا بزراعة الوجه، أثبتها "بيتر بتلر" والذي يعمل في مستشفى "رويال فري" (Royal Free Hospital)، من خلال كم ضخم من المعلومات، نشرها في العديد من المجلات الطبية المرموقة، وقدمها للخبراء والمختصين في الكثير من المؤتمرات الطبية حول العالم. ومما أثار دهشة الكثيرين بعد تحليل كل ما قدمه "بيتر بتلر"، أن نجاح عملية زراعة الوجه لن يتطلب إلا بعض التعديلات البسيطة جداً على طرق الجراحة المتبعة حالياً لزراعة الأعضاء الأخرى، وهو ما يجعلها بعيدة كل البعد عن كونها جراحة ثورية، بل لا تزيد كثيراً على ما يقوم به أطباء زراعة الأعضاء حالياً بشكل يومي حول العالم. وهو ما يعني أن الطب الحديث لديه الحل للمآسي التي يعيشها الآلاف من المشوهين، وهي المآسي التي تتراوح بين العزلة الاجتماعية والإحباط الجنسي وبين صعوبة الحصول على عمل ووظيفة أو حتى على سكن أحياناً، بالإضافة إلى ندرة الأصدقاء وجفاء الأهل والأحباب.
ولكن الحقيقة هي أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. فالمجتمع البشري بأفراده، رغم تقبله لفكرة نقل الأعضاء الحيوية -الكلى والكبد والقلب والرئتين- من الأشخاص المتوفيين وزراعتها لدى المرضى المحتاجين إليها، إلا أن أفراد هذا المجتمع لا يستسيغون بنفس القدر فكرة أن يعيش الوجه بعد أن وارى القبر صاحبه. وبخلاف رد الفعل العاطفي هذا، هنالك سؤال محوري لا زالت الإجابة عليه مستعصية على الكثيرين، وهو ما إذا كان من السليم طبياً، أن نقوم بهذا الإجراء المعقد والمكلف مادياً والخطير صحياً، لعلاج أشخاص لا يعانون من حالة تهدد حياتهم وبقاءهم، كمرضى الفشل الكلوي وهبوط