تتسارع الجهود التي يبذلها منظّرو الاستراتيجية الأميركية لوضع "خريطة" كونية تضبط مهماتهم الكبرى، خصوصاً مع بداية الولاية الثانية للرئيس بوش: فكأن هنالك، حقاً، ورشة عمل كبرى تتصدى لتلك المهمات. ومن شأن ذلك الإشارة إلى أن القادم من النشاط الأميركي سيفصح عن نفسه في سياق تقويمٍ لما حققته الإدارة الأميركية حتى الآن تقويماً نقدياً شاملاً، يسمح بمزيد من تصويب وضبط النشاط المذكور. وجدير بالذكر أن مركز بحوث "السياسة الخارجية تحت المجهر" الأميركي يقدّم على هذا الصعيد، ما قد يعتبر مدخلاً إلى ذلك، أي إلى تحديد مهمات المرحلة التالية. وستتضح هذه المهمات، إذا تناولنا بالرصد ما حدده منها رئيس "مركز السياسة الأمنية" الأميركي "فرانك غافني"، حيث عدّد في مقال نشره في مجلة "نيشنال ريفيو" سبعاً منها.
ومن الأهمية الخاصة بمكان أن "فرانك غافني" المذكور يعتبر أحد مؤسّسي مركز "مشروع القرن الأميركي الجديد" مع ثلاثة من كبار من هيأوا لحرب العراق وقادوها، وهم "تشيني" و"رامسفيلد" و"ولفوفيتز". أما المهمات السبع المعنية فتبرز منها - في هذا السياق- التالية: الأولى وتتحدد في تدمير المقاومة العراقية خصوصاً في الفلوجة، والانتقال إلى إعداد الانتخابات في العراق؛ والرابعة تقوم على الدخول في "الحرب العالمية الرابعة" لإنهاء كل معارضة أو مقاومة للولايات المتحدة في العالم؛ والخامسة وتتمثل في استمرار كلي في دعم إسرائيل وحمايتها حتى من أعدائها في الولايات المتحدة ذاتها. وبهذا الصدد، يعلن "غافني" نمط العلاقة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فيرى أن هاتين كلتيهما تمثلان وجهين اثنين لبنية واحدة. ويتهم أولئك الساعين إلى تدمير تلك العلاقة بأنهم "يعملون على تدميرنا، حين يرغبون في تدمير إسرائيل". وهذا يضعنا وجهاً لوجه أمام الوعود، التي قطعها بوش على نفسه بعد فوزه بالولاية الثانية. فمن ذلك، أكد على أنه سيمارس سياسة قائمة على العدل فيما يخص القضية الفلسطينية والقضية العراقية وغيرهما مما يلهب العالم راهناً، مما يتناقض حدّياً مع تلك الاستراتيجية.
ولعلنا نلقي ضوءاً على "مشروع القرن الأميركي الجديد" من الجانب المتصل بتلك القضية الفلسطينية. فـ"القرن الجديد" - بمقتضى ذلك- سيبقى أميركياً، بقدر ما سيكون "إسرائيلياً- يهودياً- صهيونياً". وهذه صيغة مستحدثة للتصور العولمي للعالم، أو - وهنا نضع يدنا على عملية تكسير السياقات التاريخية للدول والحضارات والمدنيات والأديان- للتصور التوراتي للعالم. ومن الدّال على ذلك ما أعلنه أرييل شارون أمام وزرائه، بعد أن اتصل ببوش مهنئاً بفوزه بالانتخابات لولاية ثانية: قلت لبوش إن 80% من أعضاء الليكود وأنصارهم الذين يحملون الجنسية الأميركية إضافة للإسرائيلية انتخبوه، وأضفت مازحاً وهذا يعني أنه لو رشح نفسه لرئاسة الليكود، فسوف يفوز عليه أيضاً. فأجابني بوش:"اطمئن على منصبك، لأنني بعد السنوات الأربع الثانية لن أنافسك". (عن: القناة الأولى العبرية، بتاريخ 5/11/2004).
وكي يكون الأمر أكثر اتزاناً وضماناً وشمولاً، تبرز المهمات الأخرى من "القرن الأميركي الجديد"، التي قدمها رئيس مركز السياسة الأمنية "غافني". فالمهمة الثانية تقوم على تغيير النظامين السياسيين في إيران وكوريا الشمالية بهدف قطع الطريق عليهما نحو الحصول على أسلحة نووية تمكنهما من دعم الحركات المناوئة للولايات المتحدة وإسرائيل، وهذا ما يدخل في حقل "دعم الإرهاب"، بالاصطلاح الأميركي. وتأتي المهمة الثالثة لتؤكد على ضرورة زيادة المصادر المالية، التي من شأنها الإسهام في إعادة تجهيز الجيش الأميركي على نحو يستجيب لـ"مهماته الجديدة". أما المهمة السادسة فتتمثل في إعادة النظر في العلاقات المتدهورة، بقدر أو بآخر، بين الولايات المتحدة من طرف وألمانيا وفرنسا من طرف آخر. وأخيراً، المهمة السابعة وتقوم على وضع سياسة أكثر قدرة للالتفاف على روسيا والصين، بمقتضى الحال.
إنها حالة جديدة نوعياً من الاستراتيجية الأميركية. وهي -كما قد يكون واضحاً- تنطلق من الإشكالية الحاسمة، التي تجد الولايات المتحدة نفسها أمامها، منذ دخلت العراق وغرقت في وحوله. وهذه الإشكالية أفصح عنها الجيش الأميركي هناك، حين أعلن مسؤولون فيه: نرفض الخروج من العراق، وإنه من العسير أن نبقى في العراق؛ لكن فوز بوش للمرة الجديدة في الحكم يظهر الآن بمثابته واحداً من الحوافز الكبرى لاعتقاده بـ"مصداقية" ما فعله حتى الآن. وبهذا، قد يكون القول وارداً بأن النظام العالمي الجديد، الذي وُلد مؤمركاً من حيث الأساس، يبحث الآن، بجدية مُلفتة، في الآليات التي تقود إلى الحفاظ عليه مؤمركاً، بعد الضربات العميقة التي يتلقاها في العراق.