لم يكن من السهل إقرار دستور لـ25 دولة بلغات وثقافات وقوميات وديانات متعددة، إنه إنجاز بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، كيف استطاع الأوروبيون تحقيق ذلك رغم كل هذا التنوع في الفسيفساء الأوروبية؟ في الوقت الذي تناقش فيه البحرين وقطر وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، وهما دولتان شقيقتان يضمهما مجلس التعاون إقامة جسر، مجرد جسر للعبور، حيث لا زالت الخلافات على أشدها، على الرغم من أهمية هذا الجسر لاقتصاد البلدين الشقيقين.
تعتبر أوروبا أكثر قارة عانت من ويلات الحروب والنزاعات، ففوق أراضيها بدأت وانتهت حربان عالميتان أكلتا الأخضر واليابس، ودمرتا مدناً بكاملها، وكلفتا أكثر من 70 مليون ضحية، حيث اعتبر التفوق العرقي أو الديني أو الطائفي أحد أهم أسباب هذه الحروب والنزاعات، وذلك إلى جانب الأسباب الموضوعية الخاصة بالاستيلاء على الثروات والمكاسب الاقتصادية.
بعد كل هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات استوعبت أوروبا الدرس ولأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية، مستبدلة الحرب والتدمير بالتعاون والبناء المشترك والذي تمخض عنه قيام الاتحاد الأوروبي بدستوره المتطور والذي من خلاله سيتم انتخاب رئيس وتعيين وزير خارجية يتحدث باسم 25 دولة، هذا العدد قابل للارتفاع إلى 29 من بينها دول مسلمة.
وإذا كانت أوروبا قد استوعبت الدرس قبل أكثر من نصف قرن، فإن العالم النامي، ومن ضمنه العالم العربي لا زال بعيداً عن عملية الاستيعاب هذه، فالصراعات العرقية والإثنية والطائفية تمزق هذه البلدان ابتداء من الفلبين في الشرق، مروراً بالهند وباكستان والعالم العربي وانتهاء بالقارة السمراء.
لماذا لا تختصر شعوب البلدان النامية الطريق وتستوعب الدرس الأوروبي، وتوفر على نفسها عناء المشقة والتضحيات والتدمير وتتوجه نحو بناء مجتمعاتها، خصوصاً وأن الكثير منها يملك موارد طبيعية واقتصادية مهمة؟
هل هو الوعي، والتعليم، أم هي الثقافة العامة التي بنيت لفترة زمنية طويلة على أساس نفي الآخر، إذ تحاول كل فئة أو جماعة أن تفرض نمط حياتها على الآخرين، بغض النظر عن الاختلافات في العادات والثقافات بين هذه المجموعات في العالم النامي.
بالتأكيد، ليس مطلوباً من المجموعات الاقتصادية في البلدان النامية اتحادات ودساتير مشتركة، هذه مسألة بعيدة عن الواقع وطوباوية في الوقت الحاضر، إلا أن المطلوب هو الحد الأدنى من التعاون والتنسيق وحل الخلافات والابتعاد عن الصراعات الإثنية والعرقية والطائفية، والتركيز على التعليم والتنمية المستدامة.
أميركا اللاتينية وحدها تغرد خارج سرب العالم النامي، فهذه البلدان نضجت قبل غيرها، ورغم عدم توصلها إلى تكوين تكتلات اقتصادية مؤثرة حتى الآن، إلا أنها تجاوزت في العقدين الماضيين مرحلة الصراع والنزاعات الحدودية والعرقية، حيث تحاول بهدوء بناء مجتمعاتها ووضع الأسس اللازمة للتعاون الجماعي المشترك.
الدرس الأوروبي يحمل دلالات خاصة للعالم العربي، الموحد ثقافياً ولغوياً وتاريخياً، والممزق اقتصادياً وسياسياً وطائفياً، والذي يملك ثروات طائلة وموقعاً جغرافياً وموارد بشرية مهمة، إلا أنها تضيع وتشتت في صراعات يبدو أنه لا نهاية لها في المستقبل القريب، بل إن هذه الصراعات قابلة للتوسع من خلال تعميق النزاعات الشوفينية والطائفية وتسهيل انتشار أسلحة الدمار الشامل وتدمير البنى التحتية للمجتمعات العربية.
أوروبا بعد معاناة طويلة ومؤلمة تقدم مجاناً درساً تاريخياً مهما لكافة بلدان العالم، مفاده أن طريق الحروب والنزاعات العرقية والإثنية والطائفية طريق مسدودة، وأن طريق التنمية والبناء والفرص المتساوية للجميع، هي الطريق الموصلة إلى الرخاء والتقدم، بدون فرض وصايات عرقية أو إثنية من فئة على فئة أخرى، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس شعوباً وقبائل، وهذه حكمة إلهية لم تستوعبها الكثير من الشعوب.
الدرس الأوروبي، وبالأخص شقه الاقتصادي يصلح لأن يكون نموذجاً للآخرين، بشرط أن يرتقي الآخرون إلى مستوى الوعي الأوروبي.