مفاهيم الحداثة في الفكر العربي الحديث والمعاصر لا تجد مرجعيتها في التراث العربي الإسلامي، على الرغم من أن بعضها يلتقي بصورة أو بأخرى، في هذا الاتجاه أو ذاك، مع مضامين في هذا التراث شبيهة أو قريبة من مضامين تلك المفاهيم الحديثة. من أجل ذلك قلنا ونكرر القول إن تبيئة مفاهيم الحداثة الأوروبية التي صارت إنسانية وعالمية تتطلب الحفر في أصولها وفصولها، وبعبارة أخرى الكشف عن تاريخها. ذلك لأنه بدون كتابة تاريخها "القديم" لا يمكن إدخالها في تاريخ جديد.
في إطار هذه النظرة إلى الأمور نواصل "الحفر" في مفهوم "العقد الاجتماعي" الذي صار في السنين الأخيرة شعاراً من شعارات الدعوة إلى الإصلاح والتحديث. وسيكون علينا هنا أن نبين كيف أسست فكرة العقد الاجتماعي لذلك الحدث التاريخي الذي نقل أوروبا من وضعية عاشت عليها طوال القرون الوسطى إلى وضعية جديدة تماماً، أقصد "الفصل بين الكنيسة والدولة". لنعد إذن إلى العقد/ العهد الذي قال به "هوبز".
العقد الذي يؤسس الدولة ليس من نوع عقد البيع بل هو تعهد، ذلك هو المفهوم الجديد الذي ركز عليه المفكر الإنجليزي المشهور "توماس هوبز" (1588-1679)، ومضمونه: يتعهد الأفراد بالتنازل عن حقوقهم في السلطة، راضين راغبين، لشخص يجسد إرادتهم العامة. أما هذا الشخص فلم يتنازل عن شيء ولا يتعهد بشيء لأنه ليس طرفاً في العقد! فتعهد الأفراد بالتنازل عن حقهم في السلطة للحاكم سابق لوجود هذا الحاكم، ذلك لأن هذا التعهد هو الذي يخلق هذا الحاكم، وبالتالي فهو ليس طرفاً. فالعقد الذي يتحدث عنه "هوبز" ليس من نوع عقد الحكومة الذي يتم بين رعية وراع بل هو من نوع عقد الاجتماع.
والوفاء بهذا العهد يقتضي ألا يتعهد المتعهدون لشخص آخر ينصبونه حاكماً جديداً عليهم، ولا أن يعودوا إلى عهد سابق مع شخص آخر. ليس هذا فحسب، بل ليس لهم أن ينتقدوا الملك الذي ملَّكوه عليهم لأنهم هم الذين خولوا له السلطة، فإذا لاموا الملك فهم إنما يلومون أنفسهم. الملك له الحكم المطلق: يختار مستشاريه وأعوانه بكل حرية، ويقرر المذهب الذي يرى أنه المذهب الصالح، ويسن القوانين التي يراها صالحة ومنها قوانين الملكية الخاصة التي يستتبعها قيام الدولة، وهو الذي يفرض الضرائب ويفصل في المنازعات، وهو الذي يعلن الحرب ويعقد السلم، إلى آخر التدابير والاختصاصات التي تشكل جوهر السيادة.
شيء واحد لا حق للملك فيه - حسب نظرية هوبز هذه- لأنه لا يكون موضوع تنازل من الأفراد الذين نصبوه، إنه الحق في الحياة وفي الدفاع عنها. فهذا الحق لا يدخل في العهد، وبالتالي فللشعب الحق في الدفاع عن نفسه في كل ما يتعلق بحقه في الحياة وحقه في الدفاع عنها، سواء في ذلك ما قد يتعرض له من ظلم وعدوان من الملك نفسه أو من الغير، أو ما يرجع سببه إلى تقاعس هذا الأخير أو عجزه عن حفظ حق الناس في الحياة، وما يتطلبه هذا الحق من مستلزمات. فإذا اعتدى الملك على حق الناس في الحياة أو تقاعس أو عجز عن تمكينهم من هذا الحق فلهم أن يثوروا عليه ويقوموا بالدفاع عن أنفسهم بأنفسهم.
من أين للشعب هذا الحق في التمرد والثورة على الملك، والحال أنه لم يلتزم لهم بشيء، لأنه ليس طرفاً في العقد كما قررنا من قبل؟
يجيب هوبز: إذا كان الحاكم متحرراً فعلا من أي التزام إزاء شعبه إذ لا واجبات عليه إزاءهم، فإن عليه واجباً إزاء الله: وهو العمل بقانون الطبيعة الذي هو تجسيد لإرادة الله وحكمته، والذي بموجبه قامت الدولة. فالدولة لم تنشأ عبثاً بل من أجل مصلحة الناس، فعلى الحاكم إذن أن يجعل هذا نصب عينيه، وأن يعمل من أجل سلامة الشعب ومصلحته، وأن يسهر على الأمن والنظام وعلى توفير الرخاء وإقرار العدل فيعامل الغني والفقير والقوي والضعيف بالإنصاف.
لقد كان طبيعياً أن يختلف الناس حول "هوبز". فريق رأى فيه المنظر للملكية المطلقة، وفريق آخر رأى فيه المشرع للتمرد والثورة. وفريق ثالث يرى أنه "يجب فهم هوبز في إطار التفكير العلمي الذي ظهر وساد في عصره والذي قدم له النموذج الميكانيكي الذي استوحاه. ذلك أن الإنسان تغلب عليه غرائزه وأهواؤه، أليس الإنسان ذئباً للإنسان؟ إذن لابد من قوة عليا تحرره منها. وبما أن الملك له جميع الصلاحيات وكل القوة فإنه يتحرر بذلك من الحاجة ومن الرغبة، وبالتالي فليست له مصلحة شخصية خاصة به، فتكون مصلحته هي المصلحة العامة ذاتها، فهو لا يعمل إلا من أجل خير الدولة. فالملك هو الشعب نفسه، إنه العقل وهو يعمل. وعلى العكس مما ذهب إليه أفلاطون فليس الفيلسوف هو الذي يجب أن يتوج ملكاً، بل الملك هو الذي بسلطته اللامحدودة يكون فيلسوفاً. إن نظرية هوبز تندرج في إطار عقلانية مطلقة ترى أن الشعب يمكن أن يتحول إلى آلة عقلانية منظمة يحكمها المُلك المطلق.
تلك هي أبرز التفسيرات التي أعطيت لنظرية هوبز وما تحمله من تناقض: التناقض بين فكرة العقد/ العهد التي يتنازل الشعب بموجبها عن جميع حقوقه للحاكم، دون أن يكون له حق استرجاعها ولا مراقبة كيفية التصرف فيها، وبين ما يمنح