يحلو للأميركيين أن يقولوا إن مهمة الترويج للديمقراطية وإشاعتها هي الغاية الاستراتيجية التي يسعون لنشرها في منطقة الشرق الأوسط. ولهذا قالوا إنه بهدف وضع حد لديكتاتورية صدام حسين وجعل العراق دولة ديمقراطية قامت واشنطن بغزو العراق، ودخلت غمار ما تلا ذلك من مواجهات على أرض الرافدين. وبعبارة موجزة فإن دمقرطة البلدان العربية، من هذا المنظور، هي المفتاح والعقدة لكامل ما يسميه الأميركيون بـ"مشروع الشرق الأوسط الكبير". ويعتبر البيت الأبيض أن نشر الديمقراطية في المنطقة هو أنجع طريقة لمكافحة الإرهاب وحركاته التي تشكل تهديداً أمنياً استراتيجيا على صعيد عالمي. لكن المفارقة هنا هي في أن معظم التحليلات الموضوعية المحايدة لا تتفق مع هذا الطرح، بل ترى أن حرب العراق، وما تلاها، لم تؤدِّ إلى مكافحة الإرهاب ولم تقلل من هجماته، بل زادت منها على العكس تماماً. وليست هذه هي الثغرة الوحيدة في منطق المشروع الأميركي عن ديمقراطية الشرق الأوسط، فالأميركيون في الوقت الذي يقدمون فيه أنفسهم كدعاة ديمقراطية، يعطون الانطباع من خلال تصرفاتهم بأنهم يصدرون هم أنفسهم عن منطق غير متماسك في فهمهم لها، إن لم نقل إن ما يقولونه شيء، وما يفعلونه على أرض الواقع شيء آخر. ولعل الموقف الذي اتخذوه من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ينزع أية مصداقية عما يدعونه من تعلق بقيم الديمقراطية واحتكام إلى ما تقوله صناديق الاقتراع.
وإلا فبماذا نفسر رفض الإدارة الأميركية منذ سنة 2002 إجراء أي اتصال مع رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات؟ وقد حدث ذلك على رغم أن هذا الأخير انتخب بصفة ديمقراطية تماماً في انتخابات تم إجراؤها سنة 1996 في الأراضي الفلسطينية. وقد شهد وقتها عشرات المراقبين الدوليين المحايدين الذين حضروا تلك الانتخابات على ما اتسمت به من دقة ونزاهة، وأكدوا أنها راعت أفضل المعايير المتبعة في تنظيم الانتخابات الديمقراطية وفق الشروط الدولية. ولذا لم يكن المرحوم عرفات فقط زعيماً تاريخياً للشعب الفلسطيني، ورمزاً نضالياً له، وإنما كان أيضاً رئيساً منتخباً بصفة ديمقراطية سليمة وبشهادة مراقبين دوليين معتبرين. وكان من المقرر أن يتم إجراء انتخابات أخرى سنة 2001. ولكن إجراءها تعذر بفعل إعادة الجيش الإسرائيلي احتلال الأراضي الفلسطينية وما ترتب على ذلك من عدم استقرار وآثار سلبية كثيرة تجعل تنظيم الانتخابات أصلا أمراً غير ممكن من الناحية العملية البحتة. ولكن أحداً لم يسمع أي احتجاج من واشنطن وقتها على ذلك، وهي الحريصة على نشر الديمقراطية وتوفير أنجح السبل لإشاعتها، كما تدعي.
وما لا يستقيم في هذا السلوك الأميركي مع المنطق السليم هو أن واشنطن لا يمكن أن تستمر في الحديث الصاخب عن رغبتها في دمقرطة المنطقة العربية، وفي تقديم نفسها باعتبارها داعية انفتاح وديمقراطية لا تلين لها قناة، وفي نفس الوقت تلوذ بالصمت المطبق عندما تعيق جهة ما اختيار شعب من شعوب المنطقة لقادته بشكل ديمقراطي، أو تتصرف بشكل سلبي غير مناسب عندما يختار هذا الشعب قادته بالطريقة المناسبة المطلوبة! ولا يقل عن ذلك تناقضاً أيضاً أن الأميركيين والإسرائيليين حين ظلوا خلال السنوات الماضية يشترطون للعودة إلى المفاوضات أن يتم تعيين بديل عن عرفات على رأس السلطة الفلسطينية كانوا بذلك يمارسون نوعاً من التناقض الصارخ مع أبسط القيم الديمقراطية، إذ مَـن الذي أعطاهم حق الوصاية أو "الفيتو" على حق الشعب الفلسطيني في الاختيار الديمقراطي لقيادته، حتى يحددوا له من ينبغي له أن يعين أو يستبعد من القادة؟
ولم يكتف الأميركيون بالامتناع عن أي اتصال مع الرئيس الفلسطيني المنتخب، بل رضوا له أن يبقى خلال السنوات الأخيرة ممنوعاً أيضاً من حرية الحركة، أو لنقل في الواقع إنه ظل رهين سجن فعلي في مقره الرئاسي في المقاطعة. ويمكننا أن نفهم دوافع الحكومة الإسرائيلية في إقدامها على هذه الممارسة الخاطئة والمشينة في حق الرئيس الفلسطيني، كونه يمثل رمزاً يختصر في ذاته ومسيرته تطلعات شعب كامل، ظلت تصارعه منذ زمن بعيد. ولكن أن يرضى المجتمع الدولي برمته، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، باستمرار هذه الإهانة غير المقبولة، والتعامل معها كما يريد الإسرائيليون كأمر واقع، فإن كل ذلك يعكس بشكل جلي، أن منطق الأميركيين في حديثهم عن الديمقراطية في المنطقة، منطق غير متماسك وغير منسجم مع نفسه على أقل تقدير. ولا يمكننا أن نضع أيدينا على مثال آخر جرى خلال الفترة الأخيرة وتمت فيه مثل هذه المعاملة الاستثنائية –والاستثنائية في سوئها خاصة- التي عومل بها الفلسطينيون تحديداً ممثلين في رئيسهم وقيادتهم. وكلنا الآن نتذكر، على سبيل المقارنة، أنه حين احتجز ديكتاتور يوغوسلافيا السابق ميلوسوفيتش سنة 1999 القائد كوسوفار ريجوفا لمدة يومين، قامت الدنيا ولم تقعد، وأصبحت المسألة شأناً عالمياً لم تتأخر أية جهة في التصدي له.
والغريب في كل هذا أن الإسرائيليين ما زالوا يرون أن من حقه