ترجل الفارس بعد أن أدى الأمانة، وحقق الرسالة التي حملها طوال عمره، ووصل بالسفينة إلى بر الرفعة والتقدم والازدهار، ومن رضا خالقه عليه أن جعله يحصد ما زرع بيديه، ويرى نتاج غرسه، ويزهو بما قدم من عطاء إخلاصاً لربه وحباً يفيض لوطنه وأمته، ويعطي المثل والقدوة في أسلوب القيادة وبناء الأمم وإقامة الوحدة. وكما كان بسيطاً في حياته وحكيماً في تصرفاته وسلوكه، جاءت جنازته مهيبة وبسيطة وتعبر عن صادق حزن كل من افتقدوه قائدا ًوأباً وزعيماً ومعلماً، ولأول مرة تخلو جنازة زعيم من المزايدات السياسية، والاستعراضات الإعلامية، والكثافة الأمنية والتواجد العسكري الطاغي. ورغم إيمان المغفورله بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالقدر، فإنه لم يكن ليترك شيئاً للصدفة بعد أن أرسى قواعد البناء وشيد أركانه وبات مطمئناً على زرعه، فبما منحه الله من حكمة وبصيرة نافذة آل على نفسه ألا يترك أمر الخلافة للأهواء، وتماسك الدولة والأسس والقيم والمبادئ التي أرساها للظروف، بل أعد لكل شيء عدته سواء في حسم مسألة الخلافة، أو في تأهيل وإعداد من سيتحملها، أو في ضمان استمرار النهج الوحدوي الذي حمل رايته منذ أكثر من خمسة عقود، عندما أدرك وهو شاب أهمية التكاتف والتقارب بين المواطنين للتغلب على شظف الحياة ومواجهة ما تحفل به الصحراء من مخاوف وأهوال.
فعندما ننظر إلى ما حدث في دولة الإمارات العربية المتحدة من الانتقال السلس للمسؤولية، والذي لم يستغرق سوى دقائق معدودة من المجلس الأعلى للاتحاد في الاجتماع والإعلان عن تولي صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئاسة الدولة خلفاً للقائد العظيم، فإن المغزى هنا: (1) إن المسيرة التي أرسى ثوابتها المغفورله بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سوف تستمر وفق ما أراد وخطط مسبقاً (2) إن أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد على قناعة بأن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة قد تتلمذ على يد وطنية حكيمة ونبت وترعرع في كنف المبادئ والأسس والقيم النبيلة (3) إن دستور دولة الإمارات العربية المتحدة والطابع المؤسس لها يحكم حياتها السياسية في أدق المراحل والمواقف (4) الإيمان الكامل لأعضاء الاتحاد بأهمية التكاتف والوحدة، واجتماع القلوب على رأي وموقف واحد لما فيه صالح الوطن (5) إن المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قد خطط بصدق وواقعية لمستقبل دولة الوحدة.
إنها قصة رجل نذر نفسه وأسرته لوطنه، فالشيخ زايد "رحمه الله" كان مؤمناً إيماناً عميقاً بالاستثمار في البشر وأنهم رأس مال الوطن، وتشكلت فطرته على معادلة أنه بالمواطن والثروة تتحقق التنمية الشاملة والتقدم الحضاري، فكان عليه أن يبدأ الاستثمار الحقيقي في أبنائه ليكونوا القدوة. وإلقاء نظرة سريعة على تاريخ صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة "حفظه الله" يوضح أنه درج على نهج والده نفسه، فهو من جيل البناة، ومن جيل التطوير والتحديث، فقد تعلم في صباه من مجالس والده أسس القيادة وأسلوب التعامل مع أبناء وطنه، وعندما اشتد عوده تحمل مسؤولية منصب ممثل حاكم أبوظبي في المنطقة الشرقية ورئيس المحاكم فيها، وهو المنصب نفسه الذي تولاه والده، ثم أصبح ولياً لعهد إمارة أبوظبي ليكتسب حكمة الإدارة ويدرك هموم الوطن، ثم كان دوره الأساسي في تشكيل قوة دفاع أبوظبي التي أصبحت نواة القوات المسلحة الإماراتية، وكان أول رئيس وزراء لإمارة أبوظبي، ثم نائباً لأول رئيس لمجلس الوزراء الاتحادي، وقبل أن يبلغ السادسة والعشرين رأس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي الذي يتولى مسؤولية تطوير البنية التحتية والخدمات والتوسع العمراني والتخطيط الحضاري، ثم تولى منصب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية بما يعنيه ذلك من إدراك كامل وفهم واقعي للتحديات والتهديدات التي تواجه أمن واستقرار الوطن والمواطن. أما مغزى رئاسته للمجلس الأعلى للبترول فإنها لا تغيب عن أحد، حيث يمثل النفط مصدر الدخل الرئيسي للدولة.
كل هذه المناصب والمسؤوليات تولاها صاحب السمو الشيخ خليفة تحت رعاية الوالد الشيخ زايد "رحمه الله"، مما أدى بسموه إلى أن يتعلم على يد الحكيم والقدوة المنظومة السياسية والقيادية والإدارية بكل أسسها ومبادئها وقيمها. وإذا كان التدرج في الوظائف يعني في أحد أبعاده نجاح الشخص في مناصبه السابقة، فإن الدلالة الأساسية تكمن في طبيعة المناصب التي يتولاها، وبقدر تنوعها، تزداد الخبرة وتصقل الشخصية وتزيد صلابتها في مواجهة الأزمات والشدائد.
ولقد استطاع صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة أن يثبت قدرته وكفاءته في أداء كل ما أوكل إليه من مهام، سائراً على خطى القائد يستلهم منه الرشد، فكانت له مآثره الإنسانية النبيلة ومواقفه الشجاعة والعادلة، وعطاؤه الدائم، وثوابته المبدئية النابعة من بيت زايد وسلوكه.
وإذا انتقلنا إلى ولي عهد إمارة أبوظبي الفريق سمو الشيخ محمد بن زايد، فإن من تعرف