في العام 1995 أصدر بنجامين باربر،الكاتب الأميركي المعروف، كتابه الذي صار شهيراً بعنوان:"الجهاد وعالم ماك". والجهاد معروف، أما عالم ماك؛ فالمقصودُ به سلسلة مطاعم ماكدونالد الشهيرة، والمنتشرة في أنحاء العالم، رمزاً لسيطرة نمط الحياة الأميركي في أنحاء المعمورة، ورمزاً للعولمة، والقرية الكونية، التي يسودُ فيها الاعتمادُ المتبادَل. وكما رمز باربر بماكدونالد لسيطرة نمط الحياة الأميركي وللعولمة؛ فقد رمز بالجهاد إلى كلّ أعداء العولمة، وكلّ أعداء أميركا بالتالي؛ من الأصوليين الإسلاميين وإلى كاسترو، وأنصار حماية البيئة، وجماعات الخضر، وجماعات اليمين التي تريد العودة للطبيعة، والحفاظ على القيم الأصيلة. بيد أنّ حقيقة أنه رَمَز لخصوم العولمة والولايات المتحدة بالجهاد، يدلُّ على المدى الذي بلغته رمزية " الخطر الأخضر "في ذاك الوقت المبكّر نسْبياً من عام 1995. ولنتذكر وقتَها أنّ الشيخ عمر عبد الرحمن كان قيد المحاكمة بنيويورك في المحاولة الأولى لنسْف مركز التجارة العالمي، وأنّ أُسامة بن لادن كان قد خرج من أفغانسْتان والسعودية إلى السودان، وأنّ مقالة هنتنغتون في صِدام الحضارات كانت قد صدرت عام 1993 لتتحول إلى كتابٍ عام 1996. هنتنغتون اعتبر الإسلام أكبر الأخطار الباقية على أميركا، وعلى الديمقراطية الليبرالية. في حين ذهب باربر إلى أنّ القوى المعارضة للولايات المتحدة وللعولمة إنما هي قوىً متخلِّفة ومتشبثة بالقديم وغير المُجْدي، ولن تستطيع الاستمرار في المقاومة، وستسقط في المجرى المتقدم والزاحف للتاريخ وللتكنولوجيا وللعالم المستقبلي المنتصِر بقيادة الولايات المتحدة. فالخصومُ موجودون، لكنهم يقفون ضد التيار، وضد التاريخ، وضدّ طموحات الإنسانية في الرفاه والنمو والسلام. وعلى خُطى باربر سار توماس فريدمان في كتابه: ليكسوس وشجرة الزيتون (1997)؛ وهو الكتاب الذي قال فيه إنه لا يتصور أن تجري حربٌ بين بلدين فيهما مطاعم ماكدونالد، التي ترُمز للتقدم والازدهار ونمط الحياة الأميركي أو Pax Americana .
قبل شهرين أصدر بنجامين باربر نفسه كتيّباً جديداً اسمه:إمبراطورية الخوف. وإمبراطوريةُ الخوف هذه هي الولايات المتحدة ذاتها التي رأى باربر هذه المرة أنها خائفةٌ ومخيفةٌ في الوقت نفسه، ولا أدلَّ على ذلك من حروبها الاستباقية، وحملتها العالمية على الإرهاب، وغزوها لأفغانسْتان والعراق، وانتشار أربعمائة وخمسين ألفاً من جنودها عبر العالم؛ ومن ضمن ذلك ثماني دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فما الذي حدث حتى انقلب الموقف رأساً على عقب في نظر باربر، والآخرين، الذين كتبوا جميعاً عن الإمبراطورية وفظائعها من أنطونيو نيغري ومايكل هارت، وموران، وإلى تيلر وفوللر وتحديات الإمبراطورية وأحزانها ومشكلاتها.
تعمَّد باربر الردَّ على فصول كتابه الأول الستة بفصلين مركَّزين.عنون الفصل الأول من كتاب إمبراطورية الخوف بـ "السلام الأميركي أم الحرب الوقائية". وقد تضمن هذا الفصل الفقرات التالية: الصقور والبوم، أي أنّ الصقور تفترس البوم في الداخل الأميركي، والخارج العالمي– والفقرة الثانية:أسطورة الاستقلال،أي أنّ هذا العالم المكوَّن من دولٍ قوميةٍ مستقلة، وداخلة على قدم المساواة في الأُمم المتحدة، تجد نفسها عُرضةً لانتهاك السيادة من جانب الإمبراطورية.
والفقرة الثالثة بعنوان: حرب الكلّ ضد الكلّ؛ رمزاً للفوضى العالمية الناجمة عن لجوء الولايات المتحدة للقوة والقوة فقط في العلاقات الدولية. والفقرة الرابعة بعنوان: العقيدة "الجديدة" حول الحرب الوقائية،
وهو يقصدُ بها استخدام القوة العسكرية بطرائق تقديرية، لا تخضعُ لمقاييس القانون الدولي والعلاقات الدولية. والفقرة الخامسة بعنوان: العقيدة "القديمة" حول الردع، وهي العقيدة التي شرعنها كيسنجر وسادت حتى أيام كلينتون،وتعني قوةً عسكريةً متفوقةً ومخيفةً يجري الاعتمادُ على هيبتها لنجاح الدبلوماسية؛ أما الآن فهذه القوة العسكرية يجري استخدامها وحدها دونما حاجةٍ للدبلوماسية!.
بعد هذا الوصف المؤثّر للتحولات السياسية/العسكرية، داخل التيارات المتصارعة بالولايات المتحدة بين الصقور والحمائم أو البوم، وخارج الولايات المتحدة تجاه ضعفاء العالم ومعذَّبيه؛ يعقد بنجامين باربر فصله الثاني للمتغيرات الثقافية والقيمية والسياسية بعنوان: قيم إنسانية أم ديمقراطية وقائية. وتحت هذا العنوان تأتي الفقرات التالية: معنى الديمقراطية الوقائية؛ وهو يعني بها النظام السياسي المتحصّن تجاه الداخل والخارج. وهذا التحصُّن يستند إلى قوانين الأمن الوطني التي سُنّت بعد 11 سبتمبر، كما يستند إلى "الرسالة الأميركية" تجاه الخارج، والتي يُرادُ فرضُها على الذين لا يفهمون بالقوة العسكرية.
فالديمقراطية لها أنيابٌ وأظافر وليست ضعيفةً كما يزعم خصومُها أو يظنون. والفقرة الثانية في الفصل الثاني تقول: لا تستطيع أن تصدّر مطاعم ماكدونالد وتسمّي ذلك ديمقراطية. وهو يعني بذلك أنّ المصالح ا