ليس عسيراً أن يحاكم الفساد والفاسدون تحت قيادة ياسر عرفات. ولكن عرفات لم يكن فاسداً قط، بل كان القائد الوحيد في العالم الذي كرس حياته لقضية شعبه، وصمود هذا الشعب، ونضاله من أجل استقلاله وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس ومن أجل نوال حقوقه وفيها حق عودة اللاجئين. ولقد حاولت إسرائيل اغتياله عدة مرات، وحاصرته في بيته في رام الله حوالي 3 سنوات وهددته بالعيش في ظروف غير إنسانية، لقد عاش عرفات حياة جد متواضعة: طعامه عادي ولباسه واحد موحد هو تلك البزة العسكرية التقليدية، ونومه مستمر في غرفة هي أشبه بغرف الخدم.
لقد نجح عرفات بإقناع العالم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. ولم ينل هذا الشعب هذه المرتبة إلا بعد أن شهد العالم نضاله المستمر من أجل الاستقلال والعودة وبناء دولته وعاصمتها القدس. ولم يهرب عرفات قط وإنما قاد نضال شعبه، وبخاصة بعد أن اقتربت منه الآلة العسكرية الإسرائيلية المعتدية، وبعد أن شرع بعض نشطاء السلام بتشكيل دروع بشرية لحمايته.
وإذا كان ياسر عرفات زعيماً روحياً للشعب الفلسطيني ويجسّد تاريخ فلسطين الحديث ويختزل تاريخ نضال هذا الشعب، فإن أرييل شارون أراد أن يكون له وحده "شرف" اغتيال عرفات حينما أعلمه قناص إسرائيلي أثناء محاصرة بيروت لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية نبأ وجود عرفات في مرمى بندقيته. ولكن عرفات تحرك أثناء ذلك، فحرم شارون من "شرف" قتله. ولذلك أقنع شارون الإدارة الأميركية الحالية بأن عرفات لا يصلح شريكاً للسلام. وقد ندم شارون على فوات "شرف" قتل عرفات مما سمح له بإلقاء خطابه الشهير في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 12/11/1974 حينما ناشد الجمعية العامة بتنفيذ حق العودة للاجئين الفلسطينيين ونادى بثنائية الحكم في فلسطين.
وفي تصورنا أن موت الرئيس الفلسطيني سيدفع أرييل شارون إلى الحزن عليه ثلاث مرات، أولا أنه لم يتمكن من قتل عرفات في بيروت، وثانيا أن القدر هو الذي هزم عرفات، وثالثا أن غياب عرفات سيزيد على شارون الضغوط الداخلية والخارجية لكي يستأنف التفاوض مع القيادات الفلسطينية الجديدة التي سترث عرفات، سواء في الدولة أو المنظمة أو فتح أو كتائب الأقصى. وربما اضطر شارون إلى إعادة النظر في مشروعه الخاص بالانسحاب من قطاع غزة لأسباب داخلية وفلسطينية.
وتعتبر اتفاقية أوسلو التي وقعها الرئيس الفلسطيني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في حديقة البيت الأبيض يوم 13/9/1993 منعطفاً مهماً في مسيرة القضية الفلسطينية، فقد أنهت تلك الاتفاقية النزاع المسلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين إسرائيل، ورتبت لإقامة سلطة وطنية فلسطينية، وجرى اعتراف متبادل. ولهذا كان من الطبيعي أن تنعكس هذه الاتفاقية، ومثيلتها، بنتائج جد خطيرة ومهمة على مسيرة الصراع العربي- الإسرائيلي وعلى القضية الفلسطينية. وهذا ما سهل على المنظمة أن توافق على قرار قمة بيروت في 28/3/2002.
وقبل قرار مؤتمر القمة العربي في بيروت، كان عرفات أسس حركة "فتح" في الكويت. وكان تأسيس هذه الحركة التي ضمت مجموعة من مختلف التنظيمات العربية والفلسطينية حتى أن بعض هذه التنظيمات قد حلت نفسها واندمجت في "حركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح". وأذاعت الحركة بيانها الأول في 7/1/1965 بعد أن قامت بعمليات ضد العدو في 1/1/1965، معلنة بداية الكفاح المسلح الفلسطيني الذي اعتبر مطلع عصر جديد في المنطقة العربية كلها، إذ هو عصر مكافحة الاستعمار والصهيونية. وقد سعى رئيس المنظمة إلى إنشاء القواعد السرية وإلى القيام بعمليات عبر الحدود في لبنان والأردن وسوريا. كانت "فتح" أحد إبداعات الشعب العربي المناضل في فلسطين، وقائده، ولا تزال. فعسى أن يدرك ذلك الوارثون.