لم يستطع كثير من السياسيين والمعلقين الإسرائيليين أن يخفوا ارتياحهم لوفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولم ينس هؤلاء في غمرة الفرح أن يرموا الزعيم الفلسطيني الراحل بكل الصفات الذميمة التي اعتادوا وصفه بها أثناء حياته، من قبيل أنه "إرهابي" تسبب في قتل مئات الإسرائيليين وجر شعبه، والمنطقة بأسرها إلى دوامة العنف (صحيفة معاريف، 15 نوفمبر 2004)، وأنه لم يكف عن السعي لتدمير دولة إسرائيل، وأن كل مبادراته السلمية لم تكن إلا نوعاً من الخداع والمناورة. ولم يفت البعض أيضاً أن يردد نفس المزاعم التي طالما رددتها القيادة الإسرائيلية، ومعها للأسف بعض الأصوات العربية، من أن عرفات أضاع "فرصة تاريخية" لتحقيق السلام برفضه "العرض السخي" الذي قدمه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في مؤتمر كامب ديفيد الثاني عام 2000، وهناك من عاد بالذاكرة إلى موقف عرفات من مؤتمر كامب ديفيد الأول عام 1979 ليثبت أن "الجحود" و"العناد" هما صفتان أصيلتان منذ أمد بعيد، وهما السبب في أن إسرائيل "المسكينة" لم تجد شريكاً حقيقياً لإرساء السلام. وفي خضم هذه الأكاذيب، تغيب عن عمد بعض التساؤلات البسيطة، ومنها مثلاً أنه إذا كانت الدولة الصهيونية "بريئة" و"مسالمة" إلى هذا الحد، فما الذي يدفعها إلى قتل آلاف من المدنيين العزل، بما في ذلك الأطفال والشيوخ والنساء، وتدمير مئات المنازل وبناء مزيد من المستوطنات التي تلتهم ما تبقى من الأرض الفلسطينية؟ وإذا كان "كرم" الدولة الصهيونية بمثل هذا الفيض الذي تتحدث عنه تلك المزاعم، فما الذي يمنعها من الاستجابة لبعض المطالب الإنسانية البسيطة، مثل فتح المعابر أو تسهيل وصول الجرحى للمستشفيات وتيسير عمل الهيئات الطبية، أو السماح للطلاب بالذهاب إلى مدارسهم وجامعاتهم، وهي المطالب التي لا تمس المصالح الاستراتيجية للدولة ولا تقتضي منها الإقدام على "تضحيات" مؤلمة مثل الانسحاب من الأراضي المحتلة أو تفكيك المستوطنات أو الاعتراف بحق الفلسطينيين المبعدين في العودة إلى ديارهم؟
إلا أن شعور الفرح الذي راود كثيراً من الإسرائيليين، وما صاحب ذلك من ترديد الاتهامات والأكاذيب المعهودة، يبدو أمراً متوقعاً وطبيعياً بالنظر إلى مسيرة ياسر عرفات وما يمثله من رمز تاريخي ونضالي للشعب الفلسطيني. فقد كان للدور الذي لعبه عرفات في تأسيس حركة "فتح" وفي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الفضل الأكبر في تحويل القضية الفلسطينية من مجرد "مشكلة لاجئين" يطلبون بعض المساعدات الإنسانية إلى قضية شعب يسعى إلى تحرير وطنه ويطالب بحقه المشروع في أن يحيا كغيره من الشعوب، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى إبراز الطابع الحقيقي للصراع باعتباره مواجهةً بين قوى الاستعمار الغربي والشعوب العربية بأسرها. كما يرجع الفضل لعرفات في انتزاع الاعتراف الدولي بعدالة قضيته وفي الإبقاء على هذه القضية حية رغم قسوة الضربات والانكسارات، ورغم تغير موازين القوى على الصعيدين الدولي والإقليمي. ثم إن عرفات كان قائداً لهذا الشعب الذي خاض نضالاً سياسياً وعسكرياً باسلاً ضد الوجود الصهيوني على الأرض العربية تُوج بالانتفاضة الأولى عام 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000 والتي كبدت الكيان الصهيوني خسائر بشرية واقتصادية تفوق خسائره في حروبه مع الدول العربية.
هذه هي بعض الأسباب التي تجعل من رحيل عرفات مصدراً للبهجة لدى قطاعات واسعة داخل التجمع الصهيوني. ولكن هذه الأسباب نفسها، فضلاً عن أسباب أخرى، هي التي دفعت عدداً لا يُستهان به من الكتاب والمحللين الإسرائيليين إلى التعبير عن القلق من المستقبل الغامض الذي ينتظر الكيان الصهيوني في غياب عرفات، بل وإلى الإحساس بالندم من استغلال وجوده لحل بعض الأزمات التي يعاني منها هذا الكيان. فعلى سبيل المثال، كتب جدعون ليفي (صحيفة هآرتس، 31 أكتوبر 2004) يقول:"رحيله الآن لن يكون نبأً ساراً لأحد، وربما سنشتاق إليه. إسرائيل أضاعته. السنوات الأربع التي أهانته بها في سجنه إياه... لم تصب في مصلحتها ولم تسهم في أمنها. هل أصبح وضعنا اليوم أفضل مما كان عليه قبل أن يرحل؟ وهل تقدمنا خطوة واحدة نحو السلام والأمن؟"، ويعقد الكاتب مقارنةً بين عرفات والأجيال الجديدة من الفلسطينيين، ويخلص إلى أن عرفات كان قادراً، بحكم تاريخه وزعامته وشعبيته، على اتخاذ مواقف لا يمكن لغيره الإقدام عليها. أما الجيل الفلسطيني الشاب، من وجهة نظره، فهو:"جيل مفقود بالنسبة للسلام ولا أمل يُرجى منه. فشبان مخيمات اللاجئين لم يروا أبداً إسرائيلياً من دون أن يكون مسلحاً وأن ينكل بهم. التسوية لن تأتي منهم".
ويتفق عوزي بنزيمان (صحيفة هآرتس، 31 أكتوبر 2004) إلى حد كبير مع هذه المخاوف، فيقول:"ما يخطط له معظم الإسرائيليين بعد ذهابه سرعان ما يتضح أنها مجرد أوهام سابقة لأوانها. فانصراف الرجل لن يجلب لإسرائيل الزعيم الذي يتنازل لها في القدس أو يعلن عن حملة تنازلات على الحل الدائم. وفي غضون عدة أشهر قد يتبين لأرييل شارون أن مفهوم "ل