استباحت القوى الأميركية الهمجية، وبمستوى حيواني بربري خارج إطار الأعراف الإنسانية، مدينة الفلوجة العربية. وفي كل يوم تُستباح مدن فلسطين من قبل الحليف الصهيوني بنفس المستوى والبدائية. وتُعلن تلك الهجمات موت عصور الأنوار والحداثة الغربية وكساح الديمقراطية. وفي المقابل هناك صمت المجتمعات العربية المذهل.
يصعب وصف المشهد بالكلمات التي عادة نستعملها، من مثل المأساة والعبث والجنون، إذ أنها لا تكفي لاحتوائه. لكن في المشهد دلائل نحتاج أن نمعن النظر فيها.
أولاً: أن يعيد المجتمع الأميركي انتخاب رجل وصفه المحللون النفسيون الأميركيون بالمعتوه، ووصفه المحللون السياسيون بالجاهل، واتفق كبار رجال الفكر في العالم على انحدار الإنسانية إلى مراحل التوحش والفوضى في عهده، فإن ذلك يعني أن خللاً بنيوياً مثيراً للقلق في النظام الديمقراطي قد أصبح مصدر خطر على العالم كله. ولعلّ المناطق العربية والإسلامية هي التي ستواجه الأهوال بسبب ذلك الخلل أكثر من كل مناطق العالم الأخرى. إن ديمقراطية تسمح بأن تصل مصاريف الحملة الانتخابية الأميركية عام 2000 إلى ثلاثة مليارات دولار وتتعايش مع وجود حوالي سبعين ألف ممثل للشركات والمصالح الفئوية المختلفة في عاصمتها من أجل ممارسة الضغط الدائم ودفع الرشاوى وإعطاء الوعود لأعضاء مجلسي النواب والشيوخ. إن ديمقراطية تسمح بذلك قابلة للسرقة والابتزاز من قبل قوى صهيونية مجنونة أو شركات طامعة غير أخلاقية، والتي في النهاية لها تأثيراتها العميقة على الوضع الإنساني برمته. إن الديمقراطية الأميركية قد أصبحت مشكلة تواجهها الإنسانية كلها.
ثانيا: مثلما يوجد خلل بنيوي في الديمقراطية الأميركية يسمح بالمشهد الذي نراه يوجد كذلك خلل بنيوي فادح في النظام الإقليمي العربي القومي. إن وقوف هذا النظام أمام كذا مشهد بعجز الأموات أو المشلولين وببلاهة الفراشات التي تحترق يومياً دون أن تتعلم قط، يشير إلى أن هذا النظام أصبح مصدر يأس ما لم تحلّ مشاكله الأساسية والتي نلخّصها بإيجاز شديد في الآتي:
1: ظاهرة الخوف من الآخر التي تطبع العلاقات بين رؤساء الدول العربية. وهي ظاهرة مَرَضيّة تحتاج إلى دراسة وحلول نفسية.
2: فردية الحكم في الأرض العربية التي قمعت الديمقراطية التي بدورها لا تسمح بالشفافية والتي بدورها تزيد في ظاهرة الخوف من الآخر لتكون حلقة مفرغة تدور حول نفسها.
3: التراجع المستمر في التزام الحكومات العربية بالنظام الإقليمي العربي وفي الإيمان بجدواه. وهذا ينطبق على الجامعة العربية وعلى مؤسسة مؤتمرات القمة الأمر الذي سمح بأن تستباح المدن العربية ويموت ساكنوها دون أن يرفّ جفن لمؤسسات ذلك النظام الذي تعفن وفسد مع الزمن.
إن أنظمة لا تستطيع التعاون فيما بينها حتى أمام الأخطار الكبرى التي تحيط بها جميعاً هي أنظمة لا تستحق الاحترام ولا الحياة.
ثالثا: ويبقى اللغز الكبير في الثلاثمائة مليون عربي والمليار والربع مسلم. فإذا كـان ما يجري في العراق وفلسطين والسودان وأفغانستان وغيرها لا يحرك فيه ساكناً، وإذا كان منظر جندي أميركي يقتل جريحاً عراقياً في باحة مسجد لا يثير فيه الغضب، وإذا كان مشهد امرأة فلسطينية تبكي بحرقة بيتها المهدم لا يدفعه إلى عمل أي شيء، فمن المسؤول عن هذه الظاهرة ؟ إنها ليست الحكومات حتماً. إنها قوى مجتمعه المدني التي لا تقل عجزاً ولا بلاهة ولا جنوناً عن حكوماته. وما لم يحدث تبدل جذري في فكر وعمل تلك القوى المدنية فإن المشهد الأميركي والمشهد الرسمي الإقليمي اللذين وصفناهما سيزدادان سوءاً.
لا يستطيع الإنسان العربي أن يهرب من حقيقة وضعه. هنـــاك الحلف الأميركي- الصهيوني الذي يلغُّ في دمه ، والوضع الرسمي العربي على المستويين المحلي والقومي الذي أصبح عبئاً على نفسه وعلى غيره، والعفن الفكري والنفسي والأخلاقي للإنسان العربي كفرد وكجماعة... فليواجه الإنسان العربي قدره كمحارب وليتوقف عن البكاء كعبد.