أعتقد أن إطلاق صفة "رجل المتناقضات" على ياسر عرفات يعكس درجة كبيرة من عدم الإنصاف التاريخي لتجربة النضال الفلسطينية الحديثة التي انطلقت في الستينيات من القرن العشرين.
إن متابعة مسيرة الكفاح الفلسطيني تشير إلى التحولات التي اقتضت تغيير الأسلوب من مرحلة إلى أخرى. لقد انطلقت المسيرة قبل وقوع هزيمة يونيو 1967. قبل هذا الحدث كان الموقف السياسي العربي العام يتخذ له هدفاً تحرير أرض فلسطين التي احتلت عام 1948.
وترتيباً على ذلك فإن الميثاق الوطني الفلسطيني عندما اعتبر إسرائيل كياناً باطلاً غير شرعي واتخذ له هدفاً لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، لم يكن يتناقض في شيء مع الظرف الموضوعي السائد في السياسة العربية. ومع قبول الدول العربية لقرار مجلس الأمن الصادر في نوفمبر 1967 بعد الهزيمة العسكرية تحت رقم 242 حدث تحول في الظرف الموضوعي العربي أثر تأثيراً مباشراً على حركة التحرر الوطني الفلسطينية. فلقد تضمن القرار بنداً ينص على الاعتراف بوجود كل دول المنطقة داخل حدود آمنة ومعترف بها، وكان المقصود ضمناً هو اعتراف الدول العربية بإسرائيل، وهو قصد ازداد فصاحة ووضوحاً للجماهير العربية مع تقدم السنين. كذلك اشتمل القرار على بند ينص على عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة، وكان بنداً موجهاً إلى إسرائيل.
من بين ثنايا البندين معاً خرجت معادلة مقايضة الأرض المحتلة عام 1967 بالسلام مع إسرائيل واتخذت الدول العربية لنفسها هدفاً جديداً جسده في ذلك الوقت شعار "إزالة آثار العدوان" الذي يعني عملياً التخلي عن الهدف السابق لتحرير الأرض المحتلة عام 1948. وكان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تختار بين مواصلة رفع شعار التحرير الكامل لتبقى معزولة في الواقع عن الظرف العربي الجديد وإما أن تكيف هدفها مع هذا الظرف الجديد فتتنازل عن هدف التحرير الكامل وتكتفي بهدف أقل يتماشى مع القرار 242.
عندما اضطرت المنظمة بعد حرب أكتوبر 1973 إلى التكييف، كان هذا علامة على إدراك أن الواقع الدولي لا يسمح للعرب سوى بإنجازات محدودة في الكفاح المسلح بما لا يمس أمن إسرائيل واستمرار تفوقها العسكري. ومن هنا فلست بقادر على فهم إطلاق صفة رجل المتناقضات على عرفات كزعيم للمنظمة. فالوقائع تشير إلى أن المجلس الوطني الفلسطيني اضطر اعتباراً من دورة انعقاده عام 1974 إلى تطوير هدف النضال دورة بعد أخرى حتى وصل إلى صيغة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض الضفة وغزة التي ينطبق عليها قرار مجلس الأمن، وهو تكيف يسعى إلى الحصول على الممكن المسموح به دولياً وعربياً على حد سواء. إن الحكم هنا يجب أن يصدر على عرفات بالمرونة السياسية سواء فيما يتصل بهدف الكفاح أو أسلوبه الذي تطور إلى أساليب متعددة تجمع بين السياسة والسلاح لإنجاز الهدف الجديد منخفض السقف. إن استقرار أسلوب العمل السياسي مع توقيع اتفاقية أوسلو جاء نتيجة لظرف موضوعي دولي وإسرائيلي أوحى لعرفات بأنه سيستطيع بالمفاوضات حول التسوية النهائية أن يحصل على الهدف المنخفض، وهو إقامة الدولة على كامل الضفة وغزة بعاصمة هي القدس الشرقية طبقاً للقرار 242 مع حل لمشكلة اللاجئين. غير أن الرجل اكتشف في مؤتمر كامب ديفيد المنعقد في يوليو عام 2000 أن المطلوب هو أن يقدم تنازلات جديدة وأن ينخفض من جديد بسقف الهدف الفلسطيني الذي تم تخفيضه أصلاً من خلال الاعتراف بإسرائيل، غير أنه ثبت على هدفه. هل كان بوسع عرفات بعد أن اقتحم شارون المسجد الأقصى في سبتمبر 2000 أن يمنع الانتفاضة؟ وهل كان بوسعه بعد سقوط مئات القتلى من المتظاهرين برصاص الجيش الإسرائيلي أن يمنع التحول إلى أسلوب عسكرة الانتفاضة؟
لقد فرض الظرف الموضوعي بالتحول الإسرائيلي نحو الشراسة نفسه على خيار الرجل وشعبه، وبالتالي جاء التحول الفلسطيني من أسلوب العمل السياسي الذي استقر مع أوسلو إلى أسلوب العمل العسكري... فأين التناقض إذاً؟.